عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما
أول مولود في الهجرة- وابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم
هو ابن الزبير بن العوّام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم.
ولادته رضي الله عنه
حين هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم الى المدينة كان رضي الله عنه لا زال جنينا في بطن أمه, وأسماء رضي الله عنها تقطع الفيافي الللاهبة مغادرة مكة الى المدينة للحاق بركب المهاجرين.
هكذا قدّر له رضي الله عنه أن يهاجر مع المهاجرين وهو لا زال جنينا بعد.
وما كادت أمه أسماء رضي الله عنها تبلغ قباء على مشارف المدينة حتى جاءها المخاض, لينزل المهاجر الجنين الى أرض المدينة في نفس الوقت الذي كان ينزلها النبي صلى الله عليه وسلم ينزلها وأصحابه رضي الله عنهم مهاجرين اليها.
وحمل الزبير لقب أول مولود في الهجرة, وكان أول شيء دخل جوفه ريق النبي عليه الصلاة والسلام الطاهر.
وعلى الرغم من أنه لم يبلغ مبلغ الرجال في حياة النبي صلى الله عليه وسلم, الا أنّ شبابه كان عفة زطهرا وبطولة يفوق الخيال, ولا عجب في ذلك ودمه مخلوط بريق النبي صلى الله عليه وسلم المبارك.
ويوم أن فتح المسلمون افريقيا والأندلس والقسطنطينية كان رضي الله عنه من أبطال الفتوح , وعلى يديه قتل ملك البربر قائد الكفر والطغيان في معركة افريقيا وكان ذلك في عهد الخليفة عثمان رضي الله عنه, وابن الزبير رضي الله عنه يومها لم يكن يتجاوز ال 27 عاما من عمره المبارك.
مناقبه رضي الله عنه
لقد طلب عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين رضي الله عنه من ابن أبي بلتعة أن يصف له عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما فقال:
والله ما رأيت نفسا ركبت بين جنبيه مثل نفسه, وكان اذا ركع أو سجد, تقف العصافير فوق ظهره وكاهله, واذا دخل في الصلاة فيخرج من كل شيء اليها, ومن طول ركوعه وسجوده لا تحسبه الا جدارا أو ثوبا مطروحا, ولقد مرّت قذيفة منجنيق من بين لحيته وصدره وهو يصلي, فو الله ما أحسّ بها, ولا اهتز لها, ولا قطع قراءته من أجلها, ولا تعجلل في صلاته.
ان الأنباء الصادقة التي يرويها التاريخ عن عبادته رضي الله عنه لشيء يشبه الأساطير, على كافة المستويات, ففي سهره نجده طوال العمر قانتا عابدا, وفي ايمانه الوثيق بالله وخشيته حدّث ولا حرج.
لقد كان نسيجا وحده
سئل عنه ابن عباس رضي الله عنهما فقال:
كان لكتاب الله تاليا, ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم متبعا, ولله صائما وقانتا وعابدا, هو ابن الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم, وابن ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما, وخالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها, وزوج خالته المصطفى صلى الله عليه وسلم, ولا يجهل حقه الا أعماه الله تعالى.
كان واضحا وشريفا, قويا وصريحا, مستقيما لا يخاف في الله لومة لائم, وعلى استعداد أن يدفع حياته كلها ثمنا لصراحته.
لقد كان في صموده في وجه معاوية وابنه يزيد بطولة خارقة بحد ذاتها.
يزيد والخلافة
لقد كان رضي الله عنه يرى أنّ يزيد بن معاوية آخر رجل يصلح لأن يكون خليفة للمسلمين, لفساده في كل شيء, ولم تكن له فضيلة واحدة تشفع لجرائمه وآثامه التي رواها التاريخ, وعندما سئل عن امتناعه عن مبايعة يزيد خليفة للمسلمين, قالها صراحة: ليس مثلي من يبايع سكيرا أبدا.
وظل ابن الزبير رضي الله عنه أميرا للمؤمنين ويتخذ من مكة عاصمة لخلافته, باسطا حكمه على الحجاز واليمن والبصرة والكوفة وخراسان والشام كلها ما عدا دمشق الي كانت تحت قبضة الأمويين.
وبقي الأمويين يتربصون لابن الزبير رضي الله عنه, ولم ل يهدأ لهم بال ولم يقر لهم قرار حتى ينالوا منه, فاستعان عبد الملك بن مروان على ابن الزبير رضي الله عنه, بأشرس وأشقى بني آدم قسوة وجورا واجراما وهو الحجاج.
البطولة بأسمى معانيها
ذهب الحجاج بن يوسف الثقفي على رأس جيشه ومرتزقته لغزو مكة عاصمة ابن الزبير رضي الله عنه, وحاصروها ستة أشهر, منعوا عن أهلها الماء والغذاء لاجبارهم على التخلي عن ابن الزبير رضي الله عنه, وتركه وحيدا بلا جيش ولا أعوان, ويستسلم الكثيرون تحت وطأة الجوع ليجد ابن الزبير رضي الله عنه نفسه وحيدا أو يكاد, وراح رضي الله عنه يقاتل جيش الحجاج وحده, وهو يومئذ يناهز ال 70 عاما في شجاعة أسطورية يعجز عنها ابن العشرين عاما, ولن نستطع تصوير الموقف الفذ ذاك الا اذا أصغينا للحوار التالي الذي دار بين ابن الزبير وبين أمه ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم والتي تقترب من سن ال 100, في تلك الساعات الأخيرة من حياة هذا البطل الذي يشهد له التاريخ بطولته وشجاعته, وامه رضي الله عنها تبدأ الحديث:
يا بني! أنت أعلم بنفسك ان كنت تعلم أنك على حق وتدعو الى حق فاصبر حتى تموت في سبيل الله, ولا تمكن رقبتك لغلمان بني أمية, وان كنت تعلم أنك أردت الدنيا, فلبئس العبد أنت, أهلكت نفسك وأهلكت من قاتل معك.
والله يا أماه! ما أردت الدنيا يوما, ولا ركنت اليها, وما جرت في حكم الله أبدا, ولا ظلمت ولا غدرت.
اني لأرجو أن يكون عزائي منك حسنا أن سبقتني الى الله أو سبقتك, اللهم ارحم طول قيامه في الليل, وظمأه في الهواجر, وبره بأبيه وبي, اللهم اني أسلمته لأمرك فيه, ورضيت بما قضيت فأثبني فيه ثواب الصابرين الشاكرين.
وتبادلا عناق الوداع وتحيته.
ولم تمض ساعة من الزمان حتى تلقى الشهيد العظيم ضربة الموت من منجنيق, وفي وقت استأثر الحجاج فيه بكل ما في الأرض من حقارة ولؤم, حين فصل الحجاج رأس ابن الزبير رضي الله عنه عن جسده تشفيا وخسة وحقدا قبل صلبه رضي الله عنه.
وقالت أمه رضي الله عنها يومها وهي ترى ابنها المصلوب كالطود الشامخ , وقفت تجاهه لا تريم, فاقترب منها الحجاج في هوان وذلة قائلا لها: يا أماه! انّ أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان أوصاني بك خيرا, فهل لك من حاجة؟ فصاحت به قائلة: أنا لست لك بأم, انما انا أم المصلوب على الثنية, وما بي اليكم من حاجة, ولكني أحدثك حديثا, سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخرج من ثقيف كذاب وميير, فأما الكذاب فقد رأيناه, وأما الميير فلا أراه الا أنت, ثم تقدّم منها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما معزّيا وداعيا اياها الى الصبر, فاجابته رضي الله عنها: وماذا يمنعني من الصبر وقد أهدي رأس يحيي بن زكريا عليهما السلام الى بغيّ من بغايا بني اسرائيل؟
يا لعظمتك يا ابنة الصديق! أهناك كلمات أروع من هذه تقال في موقف كهذا؟
وبعد..فهل كان يمكن لابن الزبير رضي الله عنهما أن يحيا حياته دون هذا المستوى من التفوق والبطولة والصلاح, وقد رضع لبن أم من هذا الطراز؟
فسلام الله عليك أيتها الأم الصابرة ورضي الله عنك وعن الصحابة جميعا وصلى الله وسلم على من رباهم.