التمييز السلبي هو واحد من الثمار المرة لشجرة التعصب، أو فلنقل هو أخطر الأعراض التي تظهر على جسد ضربه فيروس التعصب. . التمييز السلبي ضد أفراد أو مجموعات داخل مجتمع ما، ليس إذن مرض، لكنه عرض لمرض مجتمعي هو التعصب، الذي قد يكون موروثاً أو طارئاً. . قد يرجع إلى أساس تكوين المجتمع، وطبيعة علاقاته الثقافية والاقتصادية. . وقد يكون التعصب عنصراً مستجداً، أوجدته متغيرات وتأثيرات داخلية أو خارجية، الأغلب لا تكون تلك المتغيرات قد خلقت هذا التعصب من العدم، وإنما نفخ&EcirEcirc; فيه الحياة فتمدد بعد انحسار، وتعملق بعد ضآلة وكمون.
نستطيع أن نتحدث عن تعصب مادي وتعصب أدبي، إذا تأملنا في المعاني المحملة على كلمة "تعصب" واستخداماتها في حياتنا، فنحن نستخدم كلمة تعصب بمعنى الانتماء القوي والمتحمس لأمر ما، قد يكون جماعة معينة، أو فكرة أو عقيدة أو أيديولوجيا يقتنع بها الإنسان، وقد يكون التعصب لكيان أدبي، مثل ناد أو فريق رياضي يشجعه الإنسان ويتعصب له. . فالتعصب قد يتم على أسس مادية، مثل الانتماء إلى عرق أو جنس معين من البشر، وأقل منه في درجة المادية، التعصب لأصحاب مهنة أو لفريق للكرة مثلاً، أما إذا كان التعصب لفكرة أو عقيدة، فيكون في أغلبه تعصب أدبي، وإن كان له انعكاساته المادية.
لكن قد يبدو غريباً للوهلة الأولى، أن نتحدث عن تعصب إيجابي وآخر سلبي. . ما نقصده هنا ليس مجرد وصف لنتائج التعصب، وإنما يمتد الوصف لطبيعة التعصب ذاته. . فإذا كان التعصب يعني الارتباط أو الانتماء لجماعة أو لفكرة سيان، فإن طبيعة هذا الارتباط هي التي توصف بالسلبية أو الإيجابية، فإذا كان ما يربط بين الفرد والكيان المتعصب له، أو ما يشده إليه، يرجع لمزايا يراها في هذا الكيان، تؤدي لتكون شعور بالحب أو بالاقتناع لدى الفرد، فإن هذا يعد ارتباطاً إيجابياً.
أما إذا كان ما يربط الفرد بالكيان المتعصب له، هو كراهية كيانات أخرى موجودة بنفس الساحة أو المحيط، أو الخوف منها، بما يجعله يرتبط بكيانه المختار، فإن عوامل الربط أو الانتماء هنا تكون سلبية. . هي عوامل تنافر مع آخر، تلك التي دفعتني للالتصاق بمجموعتي، التي قد لا يكون بيني وبينها في هذه الحالة أي مشتركات مادية أو أدبية.
نستطيع أن نأخذ مثالين من الساحة السياسية، يوضحان المقصود بالتعصب الإيجابي والسلبي، مع الأخذ في الاعتبار أن المقصود بالتعصب حتى الآن هو مجرد الشعور بالانتماء، ولم ندخل بعد في الوجه الآخر من التعصب سيء السمعة. . لدينا انتماء دول وشعوب ما نعرفه بالاتحاد الأوروبي، نجد أن التوافق في نظم وأفكار وثقافات هذه الشعوب، هي التي جعلت مسيرتها نحو التقارب والتوحد تتقدم باستمرار، حتى صارت لها عملة واحدة، وبرلمان موحد، وغيرها من مظاهر ربما أهمها إلغاء تأثيرات الدخول فيما بينها، ليتنقل الفرد الأوروبي بين بلدان ومدن أوروبا، كما لو كانت لدولة واحدة. . عناصر التوحيد إذن ترجع إلى طبيعة تلك المكونات، وليس لعناصر خارجة عنها. . هو انتماء أو فلنقل تعصب إيجابي. . يلحق بهذا المثل، حالة اقتناع بمهارة فريق لكرة القدم، بحيث نرى مثلاً أن "الزمالك مدرسة، لعب وفن وهندسة"، وبغض النظر عن حقيقة تصور الإنسان عما ينتمي إليه، إلا أن ما يربطة بهذا الفريق هو مجرد إعجابه بأدائه، وليس كراهية باقي الفرق المنافسة له. . هنا يكون التعصب أيضاً إيجابياً.
المثال الآخر هو حالة الجامعة العربية، التي تعتبر المقابل للاتحاد الأوروبي. . لو تأملنا في أحوال تلك الدول المسماة عربية، وفي الخطاب السياسي والثقافي الداعي لوحدتها، سنلحظ غياباً شبه تام لعناصر التوافق بينها، فرغم أن
هنالك بالفعل الكثير من عناصر التكامل الاقتصادي مثلاً بين هذه الدول المتجاورة، فما يتوفر لدى هذه الدولة ويفيض عن حاجتها ينقص الأخرى، التي تتمتع بمزايا يمكن أن تقايضها مع ما تحتاجه، إلا أن تواري مثل تلك التوجهات من دعوة العروبة واضح جلي، ليتصدر المشهد بدلاً منه، حالة عداء وتخويف من الآخر، الذي هو الصهيونية والإمبريالية وما شابه من التسميات ذات الوزن الثقيل!!. . هكذا تكون الوحدة العربية المزعومة وحدة تقوم على تعصب سلبي، لأنها تتأسس على كراهية آخر، وليس على حب أو توافق بين المكونات التي تتأسس منها.في الكيانات التي تقوم على عوامل توحد (تعصب) إيجابي، لا يكون هناك مبرر لتمييز سلبي ضد آخر عدو. . فالسائد هو التوافق المؤدي للتجاذب بين الأفراد، وليس التنافر مع آخرين، يمارس ضدهم التمييز السلبي. . هنا لايستخدم مفهوم (تعصب) بمحمولاته السيئة لوصف الرابطة داخل تلك الكيانات، ليستخدم بدلاً منه مفهوم "توحد" الأكثر مناسبة للدلالة على طبيعة تلك الكيانات، ليقتصر استخدام مفهوم "تعصب" على تلك الكيانات التي تقوم على كراهية عناصر خارجية، أو التنافر معها، ذلك الذي وصفناه بالتعصب السلبي.
لنا الآن أن نتساءل عما يمكن أن تكون عليه أحوال مجتمعات أو دول، تقوم على التوحد فيما بينها، مقارنة بأخرى تقوم على التعصب. . شتان الفرق بين أفراد تتأسس علاقاتهم على عوامل توافق بينهم، يبحثون عنها، أو ينقبون عليها إن لم تكن ظاهرة، ليقيموا عليها حياتهم، وبين أناس تقوم حياتهم على التخوف من آخرين وكراهيتهم، ولا يجدون للدعوة لتوحدهم، إلا لأن تتعالى أصواتهم بصيحات عداء لأناس آخرين، قد يلقبونهم بالإمبرياليين أو الصهاينة أو الكفار . . . إلخ!!
أهم ما ينبغي علينا ملاحظته، هو أن الكيانات التي تتأسس على التوحد، تبحث باستمرار عن عوامل التوحيد، لتحاول ضم المزيد والمزيد من الأفراد والكيانات إلى التجمع، والعكس بالنسبة لتك القائمة على التعصب، إذ دائماً تسعى إلى الفرز الاستبعاد، لتأكل أو تستهلك نفسها بنفسها، عبر انشقاقاتها الداخلية. . هنا يلعب نهج تجمعها دوراً معاكساً يؤدي إلى تدميرها من الداخل.
نرى هذا جلياً في مثالينا السابقين، ففيما تتزايد أعداد الدول المنتمية للاتحاد الأوروبي القائم على التوحد، نجد الجامعة العربية تتصدع، وتنقسم لجبهات متضادة متعادية، سواء علانية أو في الخفاء!!
هكذا أيضاً يكون حال الأوطان حيث تزداد الأوطان القائمة على التوحد قوة وتماسكاً، في حين أن تلك التي يشيع فيها التعصب تتفتت إلى مكونات صغرى متباغضة متعادية، لتعود تلك المكونات الصغرى للانقسام داخلياً. . ينقسم المصريون إلى مسلمين ومسيحيين متعادين ومتباغضين، لينقسم بعد ذلك المسلمون إلى سنة وشيعة، ثم ينقسم السنة إلى سلفيين وصوفيين وقرآنيين وغيرها من تقسيمات، وكذا تنقسم الشيعة إلى عديد من الطوائف. . لنجد المسيحيين أيضاً ينقسمون إلى أرثوذكس وكاثوليك وانجيليين. . ليس التنوع هنا هو المستهجن، فالتنوع ثروة قومية وإنسانية. . المشكلة هي في الروح التي تسود بين مكونات الكيان أو الوطن الواحد، هل هي روح توحد وتعاون على البناء والتعمير، أم روح تعصب وكراهية وعداء يفضي إلى الخراب!!
منقولً لعيونكمْ