إيليا أبو ماضي – شاعر الطبيعة و العذوبة
مقدمة :
قل المجيدون وكثر المتشاعرون في زمننا الحاضر. سنّة الطبيعة أن يتوالد البعوض بالملايين, وأن لا تلد الصقور إلا عدداً قليلاً. والشاعر المهجري إيليا أبو ماضي ينتسب الى فصيلة الصقور والى الشعراء المبدعين الكبار. فلطالما أحببت أن أتعمق في شخصية هذا الشاعر و في فنه و شعره الذي كنت ألمح فيه الجدة والابتكار و روعة التصوير . إيليا أبو ماضي ليس كغيره من الشعراء ، حيث أنه يعشق التعلم في صغره و لكن و بسبب ظروفه المادية لم يستطع الانضمام إلى قافلة المتعلمين إلا بعد عناء . و ضاقت عليه الحال فعزم على الرحيل و الاغتراب . و من الصعوبات التي واجهت شاعرنا اضطهاد السلطات البريطانية له ، حيث أنه ممن يدافع عن الثورة و الجهاد بقلمه .
أنا شخصيا لم أتعرض لإي صعوبات أو مشاكل تذكر خلال بحثي عن حياة هذه الشخصية ، فشخصية كهذه مرهفة الحس و الوجدان ، مبدعة بما فيها هذه الكلمة من معان ، تركت بصمة قوية بعدها ، ستكون العديد من الكتب و الكتاب قد تحدثوا عنها ، وتزخر المكاتب و المواقع الإلكترونية بمعلومات رائعة جدا .
ولادته ونشأته
وُلد إيليا ضاهر أبو ماضي في قرية المحيدثة ببكفيا في قضاء المتن الشمالي بلبنان ، وهي إحدى القرى الهادئة الوادعة المعلقة بأقدام الجبل ، تحيط بها أشجار الحور والصفصاف من كل جانب ، وتملأ جنباتها الحقول والكروم الحبلي بأطيب الثمار ، وتختلط فيها زغردة الطيور بأنّة الناي المبحوح ، وتنتشر فيها الرياض الغنّاء المخضوضرة والمياه العذبة الرقراقة ، وتكثر فيها زراعة التوت وصناعة الحرير .
في هذه الطبيعة الخلابة الساحرة فتح إيليا أبو ماضي عينيه الصغيرتين على الحياة ومن يُراجع أقوال الذين كتبوا سيرته يجد بعض الاختلاف ي تحديدهم سنة ولادته ، فمجلة (السائح) المهجرية تجعلها سنة 1889م ، وجورج صيدح في كتابه (أدبنا وأدباؤنا في المهجر) يجعلها سنة 1891م ، وإذا صح أنه هاجر إلى مصر سنة 1902م فإنه عمره وقتها حسب الرأي الأول يكون ثلاثة عشر سنة وحسب الرأي الثاني إحدى عشرة سنة ، والأغلب أن الرأي الأول هو الأكثر صوابا .
دخل إيليا أبو ماضي مدرسة المحيدثة القائمة في جوار الكنيسة ، وبين صفوفها أخذ يفك لغز الحرف وطلسم الكلمة من دون أن يعرف هو أو والده أو أقرباؤه أو أترابه أنه سيصير بعد حين شاعرا كبيرا تنطلق من حنجرته وقلمه أجمل القصائد الشعرية .
وقد نشأ أبو ماضي في عائلة بسيطة الحال لذلك لم يستطع أن يدرس في قريته سوى الدروس الابتدائية البسيطة ، ويقول كاتبو سيرته أنه كان يقطع مسافة ميلين سيرا على الأقدام حين كان في السابعة من عمره ليسترق العلم من مدرسة يديرها العلاّمة الشيخ إبراهيم المنذر ، فيقف أمام نافذتها يُصغي إلى شرح الدروس ، وحين لمس المعلم شدة رغبته في طلب العلم دعاه إلى دخول الصف بدون مقابل .
تعلم أبو ماضي في قريته أصول الكتابة والقراءة باللغة العربية ولما ضاقت به سُبل العيش وجد أن لا مناص له من السفر فحزم أمتعته وقرر الرحيل.( 1 )
في الإسكندرية
شقّ إيليا أبو ماضي صدر البحر متوجها إلى الإسكندرية بمصر عام 1902م شأنه في ذلك شأن جمهرة من اللبنانيين الذين يمّموا وجههم شطر مصر طلبا للعيش الكريم ، وقد أسس فيها بعضهم مجدا أدبيا كبيرا وساهموا في بناء النهضة العربية الحديثة بعدما أسكتت أصواتهم سطوة الاستبداد التركي في بلادهم .
وكان لإيليا أبو ماضي في الإسكندرية عَمًّا يتعاطى بيع التبغ في دكان له هناك فأخذ يساعد عمه في بيع اللفائف لقاء أجرة زهيدة أغنته عن الحاجة والسؤال ، وكان يوفر من دخله البسيط ليقتني الكتب وعكف على دراسة الصرف والنحو حتى استقامت لغته وأصبح قادرا على التعبير عن انفعالاته وأحاسيسه وصبّها في بوتقة شعرية جميلة .
وتشاء الظروف أن يلتقي أبو ماضي مصادفة بأنطون الجميّل في دكان عمه ، وكان الجميّل قد أنشأ مع أمين تقي الدين مجلة الزهور فأعجب بذكائه وعصاميته إعجابا شديدا ودعاه إلى الكتابة بإشرافه ، فأخذ ينظم بواكير شعره ويعرضها على الجميّل لتنقيحها ومن ثم نشرها في مجلة الزهور ، وكانت أولى قصائده التي نُشرت في هذه المجلة تروي قصة فتاة صغيرة زوّجها أهلها قسرا من رجل كبير السن ، فعاشت معه حياة شقية بائسة وقضت حياتها سجينة التقاليد لا تستطيع منه فكاكا ، وقد جاء في قصيدته هذا البيت الجميل :
إنّما الغُصْنُ إذا هَبَّ الهَوا *** مالَ لِلأغْصانِ لا للحَطَبِ.
وبقي أبو ماضي على حاله ينظم وينشر في هذه المجلة المعروفة آنذاك إلى أن جمع بواكيره في ديوان أطلق عليه اسم " تذكار الماضي " وقد صدر في عام 1911م عن المطبعة المصرية ، وكان أبو ماضي إذ ذاك يبلغ من العمر اثنين وعشرين عاما .
وانصرف أبو ماضي عن النظم في الموضوعات الاجتماعية في هذه الفترة إلى الموضوعات السياسية والوطنية ، وجنّد قلمه الخصيب في خدمة القضايا العربية وفي طليعتها المناداة باستقلال مصر عن الاحتلال الإنجليزي وتحرير الأقطار العربية ، والتي كان الحزب الوطني المصري بقيادة مصطفى كامل ينادي بها .
واشتد اضطهاد السلطات البريطانية لأركان الحزب الوطني المنادي بالاستقلال والحرية وضيقت الخناق على كل الذين حاولوا أن يؤلبوا الشعب على الثورة والجهاد ، وإذا بأبي ماضي لا ترهبه أساليب القمع والتهديد وانطلقت قصائده صاخبة مزمجرة ينشرها في الصحف هنا وهناك ليزيد النقمة على الاستعمار ، بيد أن أبو ماضي شعر أن وجوده في مصر لن يحقق له ما يصبو إليه من آمال وأن السلطات البريطانية لا بد أن تنال منه إذا هو استمر على نهجه في مقارعتها لذلك أخذ يفكر جدياً في العودة إلى الوطن .
وازدادت النقمة على الشاعر الثائر من الإنجليز خصوصا بعدما ألقى قصيدتين ناريّتين في مناسبتين وطنيتين إحداهما عودة محمد فريد رئيس الحزب الوطني إلى مصر قادما من أوروبا ، والثانية أثناء حفلة تذكارية لمصطفى كامل ، وكان التهديد لأبي ماضي مباشرا وأودع في السجن لمدة أسبوع .
ويقول الدكتور جميل جبر أن أبو ماضي لم يجرؤ على نشر قصائده العنيفة ضد السلطات المصرية المستسلمة لإرادة الإنجليز في ديوانه " تذكار الماضي " بل احتفظ بها ونشرها في الطبعة الثانية من الديوان في نيويورك سنة 1916م بعنوان " ديوان إيليا أبو ماضي " .
ويعزو الأستاذ أنيس المقدسي سبب ترك الشاعر لمصر وهجرته إلى الولايات المتحدة إلى أنه لم ينجح في عمله في الديار المصرية بالإضافة إلى أن نقد النقاد وتجريحهم له قد يكون من جملة الدوافع التي دعته إلى هجر وادي النيل والسفر إلى الولايات المتحدة ليجرّب حظه هناك ، كما فعل قبله الألوف من بني قومه وجلدته .( 2 )
عودة إلى الوطن
تشير جميع المراجع إلى أن إيليا أبو ماضي ترك الإسكندرية عام 1912م إلى الولايات المتحدة الأمريكية ، غير أن الدكتور جميل
جبر يذكر في كتابه " إيليا أبو ماضي " أنه يمم وجهه قاصدا لبنان بعد مُضي أحد عشر عاما قضاها الشاعر في مصر .
عاد الشاعر إلى وطنه يحدوه الحنين إلى مرتع الصبا وذكريات الطفولة ، وكان يظن وهو بعد في مصر أن إعلان الدستور عام 1908م الذي ضمن الحريات لرعايا السلطنة العثمانية في مختلف الولايات هو بداية عهد جديد في جبل لبنان ، لذلك حيّا هذا الدستور بقصيدة جميلة بقول فيها :
ثلاثونَ عاماً والنّوائبُ فَوْقَنا *** غَيْمَةُ مثلَ الغُيومِ القوائمِ
ويا أيُّها الدُّستورُ أهلاً ومرحباً *** على الطائرِ الميمونِ يا خيرَ قادمِ
ولكن ظن الشاعر لم يكن في محله وإذا بالحلم الذي كان يدغدغ مخيلته إبّان اغترابه إلى مصر قد تبخر ، وكان يحكم جبل لبنان المتصرف العثماني يوسف باشا فرنكو ، فاستبد كثيرا وأثار غضب الأحرار وحفيظتهم ، فإذا بالشاعر تتفتق قريحته عن قصائد يحارب فيها الاستعمار وأعوانه ، وإذا به أيضا ينخرط في صفوف المعارضة السرية التي كان يقودها يومذاك أستاذه الشيخ إبراهيم المنذر ، وقد عبر الشارع عن نقمته على وطنه المستسلم تحت نر العبودية والذل والخنوع :
وطنٌ أردناهُ على حبِّ العُلى *** فأبى سوى أنْ يستكينَ إلى الشقا
كالعبدِ يخشى ، بعدما أفنى الصبا *** يلهو به ساداته ، أنْ يُعتقا
ويهاجم الشاعر سياسة القمع التي يمارسها الحكام المستبدون ويصب جام غضبه ونقمته على الفوضى السائدة في البلاد ، والجهل المتفشي بين صفوف الشعب ، وحالة التشرذم والتمزق التي يعيشها أبناء البلاد والاستكانة والاستسلام للعدو الغاصب المحتل ، والانزلاق في مهاوي الطائفية والمذهبية البغيضة التي تفرق أبناء الشعب الواحد .
ويتلقى الشاعر التهديد في وطنه كما تلقاه في مصر ، فيشمر عن ساعديه ويحزم أمتعته مستعدا للسفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية قلة الألوف من أبناء قومه المهاجرين ، ويودّع لبنان بقصيدة بعنوان "وداع وشكوى" يقول في مطلعها :
وحكومةٍ ما إِن تُزَحْزِح أحمقاً *** عن رأسِها حتى تولّى أحمقا]
ويحس الشاعر حيت وطئت قدماه أرض المهجر البعيد بالانعتاق والانفلات والتحرر ، فإذا هو في الدنيا الجديدة التي ينتشر فيها ضياء العلم ونور الحضارة .( 3 )
في المهجر الأمريكي
كانت الهجرة من لبنان إلى مصر في ذلك الوقت سهلة ميسورة أما الهجرة من لبنان إلى أمريكا فكانت أمرا صعب المنال ، لأن الحكومة العثمانية وقتها كانت تمنع الهجرة إلى أمريكا وكانت ترفض إعطاء جوازات السفر للمهاجرين السوريين إليها ، وكان لا بد لهم من الحصول على الجوازات التي تخولهم الدخول إلى مصر أولا والتي كانت محطة انطلاق المهاجرين إلى أمريكا ، ولعل أبو ماضي سافر إلى مصر أولا ليتسنى له الحصول على إذن لدخول المهجر الأمريكي .
رست السفينة التي كانت تقله سنة 1912م في مدينة " سنسناتي " بولاية أوهايو حيث أقام فيها مدة أربع سنوات عمل فيها بالتجارة مع أخيه البكر مراد ، وعزم على أن يُطَلِّقَ الشعر لأنه لم يورثه إلا الفقر ولم يجلب له إلا الفاقة ، وانقطع بالفعل عن الكتابة زمنا إلى أن عاوده الحنين إلى النظم ، وأخذ ينشر منظوماته المتنوعة في شتى الصحف والمجلات التي كانت معروفة آنذاك في عالم الاغتراب .
لم يجد إيليا أبو ماضي في هذه المدينة التي قضى فيها أربع سنوات ما ينشده من أمل في تحسين وضعه المعيشي فانتقل منها إلى مدينة " نيويورك " عام 1916م وقد تحول فيها من حقل التجارة إلى حقل الصحافة والأدب وأخذ يمارس النشاط الأدبي حتى آخر أيام حياته ، ودعته " جمعية الشباب العربي الفلسطيني " إلى تولي رئاسة تحرير " المجلة العربية " التي كانت تصدر في نيويورك فلبّى طلبها ، وكانت هذه المجلة لسان حال الشباب العربي في تلك البلاد ، وما هي إلا فترة حتى أسهم في تحرير مجلة " الفتاة " التي كان يُصدرها " شكري البخاش " والذي عاد فيما بعد إلى وطنه وأسس صحيفة أطلق عليها اسم " زحلة الفتاة " ، كما أسهم في تحرير مجلة " مرآة الغرب " التي كان يصدرها " نجيب دياب " والذي تزوج أبو ماضي من ابنته فيما بعد ، وقضى فيها عشر سنوات كاتبا ومُنقحا ومُصححا .
بعد ثلاث سنوات من انتقاله إلى نيويورك أصدر الجزء الثاني من ديوانه وكأنه اعتبر أن ديوانه " تذكار الماضي" الذي أصدره في الإسكندرية هو الجزء الأول من ديوان شعره ، وفي هذا الديوان الجديد الذي صدر بعنوان " ديوان إيليا أبو ماضي " قصيدة يتأوّه فيها على تركه مصر التي كانت ملعب صباه ومرتع شبابه :
ليس الوقوفُ على الأطلالِ مِنْ خُلُقي *** ولا البكاءُ على ما فاتَ مِنْ شِيَمي
لكنّ مِصْراً وما نفسي بِناسِيَةٍ *** مَليكةَ الشرقِ ذات النيلِ والهرم ( 4 )
في الرابطة القلمية
أُتيح للشاعر إيليا أبو ماضي أن يتصل بأوساط الجالية اللبنانية وكافة الجاليات العربية في نيويورك بحكم مهنته الصحفية ، فعبّر عن طموحاتها وتطلعاتها التحررية أثناء الحرب العالمية الأولى الأمر الذي ساهم في زعزعة دعائم السلطنة العثمانية التي كانت في تلك الأثناء أشبه ما تكون بالرجل المريض ، كما شارك جُبران خليل جُبران وأمين الريحاني في لجنة " إغاثة لبنان " يوم أضحى فريسة ينهشها الجوع والظلم والمرض .
أتقن أبو ماضي اللغة الإنجليزية إتقانا تاما بحكم إقامته في الديار الأمريكية وازدادت ملكته الأدبية اتساعا وموهبته التعبيرية أصالة وتنشق في تلك البلاد نسيم الحرية العطر ، وأخذ يخفف من وطأة المآسي التي كان يئن تحت وطأتها أهل بلده ، فدبّج المقالات ونظم القصائد مخففا عن الشعب أوجاعه وأحزانه ، وأُتيح للشاعر أيضا أن يتعرف في هذه المدينة إلى نخبة من أدباء المهجر أمثال : جُبران خليل جُبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني ونسيب عريضة وندرة الحداد وعبد المسيح حداد وسواهم من رجال الفكر وحملة القلم .
أما كيف وُلدت فكرة إنشاء " الرابطة القلمية " فإننا ننقل الجواب على ذلك من كلام الدكتور جميل جبر الذي يقول : في الخلوات الحميمة بينه (أي أبو ماضي) وبين جُبران والريحاني ونسيب عريضة وعبد المسيح حداد بدأت تنمو فكرة إنشاء جمعية أدبية تضم نُخبة الكتّاب اللبنانيين والسوريين التواقين إلى التحرر والتجديد سواء في حقل العمل الوطني أو في حقل اللغة والأدب أو في حقل المجتمع العربي الغارق في تقاليده المتحجرة في سبيل مواكبة العصر .
وفي سهرة أحياها عبد المسيح حداد في 20/ إبريل/1920م ودعا إليها بعض الأدباء دار الحديث عن الأدب ودوره في بث روح جديدة في الشرق العربي وتحريره من الجمود والتقليد استقر الرأي على تأسيس رابطة أدبية تحمل اسم "الرابطة القلمية " ، وبعد ثمانية أيام عُقد اجتماع ثانٍ في منزل جُبران غاب عنه إيليا أبو ماضي ، وتألّفت هذه الجمعية على الوجه التالي :
أعضاؤها ثلاثة طبقات : عاملون ومناصرون ومراسلون ، وانتُخب جُبران عميدا لها ، وميخائيل نعيمة مستشارا ، ووليام كاستفليس خازنا ، أما أعضاؤها العاملون الباقون فكانوا ندرة حداد ، إيليا أبو ماضي ، وديع باحوط ، رشيد أيوب ، إلياس عطا الله ، عبد المسيح حداد ، ونسيب عريضة ، ولما صدر العدد الأول من " مجموعة الرابطة القلمية " سنة 1921م كان لبي ماضي فيه خمس قصائد .
في جو هذه الرابطة لمع أبو ماضي كشاعر ممتاز وذاع صيته في العالم العربي كله ، كما انتشر صيت هذه الرابطة التي كان لها فضل نشر مذهب المهاجرين في الأدب والإعلام والتي شكلت مدرسة أدبية لها شأنها وخطرها .( 5 )
فلسفة أبي ماضي
جعـل أبو ماضي من شعره منطلقـاً لأفكـاره الفلسفـية التي صاغها ببلاغة وسهولة ومـرونة بيان. فلسفـته في الكـون, وما وراء الطبيعة, وفي الوجـود والعدم, وفي الـروح والحقيقة, اعتمـدت عـلى مبـدأ إعتنـقه عـدد من الفلاسفة الذين رأوا في البحث عن هذه الأمور مسألة عقيمة لا تؤدي بصاحبها الى حل تلك الأسئلة التي راودت المفكرين منذ زمن بعيد جداً, فالفكر في نظرهم لا يستطيع أن يتخطى حدوده المادية ليصل الى اكتشاف حقائق مجهولة تتعدى قواه الفكرية. وكان قد سبق أبي ماضي من الشعراء في هذا المبدأ الشاعر الفارسي عمر الخيام الذي يقول:
"أتى بي لهذا الكون مضطرباً فلم تزد لي إلا حيرة وتعجّب
وعدت على كره ولم أدر إنني لماذا أتيت الكون أو فيم أذهب"
وأبو ماضي يقول في قصيدته الطلاسم:
"جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت وأبغض فيمسي الكون سجناً مظلما
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت والمرء لولا الحب إلا أعظما
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت فتألمت من قبل أن تتألما
كيف جئت, كيف أبصرت طريقي الله لم يخلق لنا غير السم"
لست أدري".
أخذت فكرة عدم تلاشي الإنسان بعد الموت تلاشياً كلياً في التراب, تزداد سنة بعد سنة رسوخاً في رأس أبي ماضي, بحيث نجده ينشر في مجلته "السمير" مقالاً جعل موضوعه الإنسان وما يوجد فيه من غرائب. ورأى أن الإنسان مجمع غرائب, وملتقى الأسرار والأحاجي؛ فيه من الحيوان شيء, ومن النبات شيء, ومن الجماد شيء, وأعظم من هذا كلّه فيه شيء من الإله.
وإيمان أبي ماضي بأن الإنسان بعد موته سوف يعود فيولد من جديد إما حيواناً أو نباتاً تدب فيهما الحياة, هو إيمان استقاه من بعض أقوال الفلاسفة القدماء الذين كانوا يقولون إن الإنسان الفاضل سيتحوّل بعد موته عن طريق التناسخ الى زهرة, فوّاحة العبير, والإنسان الشرير سيتحوّل الى حيوان.
لقد جاء الإنسان الى هذه الدنيا مكرهاً, وسيفارقها مكرهاً, فهو لا يعلم لذهابه موعداً, حياته لغز حيّر عقول العلماء والشعراء والمفكرين, وذهابه لغز أيضاً, لا يعرف كنهه إلا خالقه. فكلما أوهمنا أنفسنا باقترابنا من معرفة الحقيقية, حقيقة الوجود, نكون قد ابتعدنا كل الإبتعاد عن معرفتها الحقّة.
نبذ الطائفية
لقد التفت شاعرنا حوله فإذا الناس على خلاف دائم حول الأديان الكثيرة, وحتى ضمن الدين الواحد, ووجد المذاهب المتعددة والطوائف المختلفة, كل مذهب يمجّد مبادئه ويدحض مبادئ الآخر, والناس في خضم هذه الفوضى الفكرية.
التناحر الطائفي والديني, زرع في أعماق أبي ماضي بذور الشك بالأديان والمتدينين, الأمر الذي جعله يتخطى الطوائف المختلفة فقاده فكره الى الإله الواحد, واجب الوجود؛ آمن بربّ واحد حكيم, خلق هذا العالم, ورتبه, ونظمه, إنه إله المحبة الشامل, الذي من المفترض أن يكون الإنسان على شاكلته, مفعم بالمحبة. فالمحبة تنير وتجمع الشتات الإنساني, في حين ان الكره والبغض يظلم ويمزّق. يقول شاعرنا:
"أحبب فيغدو الكوخ كوناً نيّراً
ما الكأس لولا الخمر إلا زجاجة
كم روّعوا بجهنم أرواحنا
ليست جهنم غير فكرة تاجر
هذا الطريق المحفوف بالمخاطر والأشواك, بالشك والظنون, ابتعد عنه أبو ماضي وأخذ يسلك دروباً شائكة في الحياة, نظر حوله فإذا العالم كله ينحدر ببطء نحو الزوال, وما الخلود سوى ضرب من الخيال, تراب فتراب, حياة كلها هباء, وجميع العناصر الحية, الى فناء, فإلى أين المفر؟ إنها المأساة والصراع الذي يمزّق رغبات الإنسان المكبل بهواجس القنوط واليأس والشقاء, والعدمية, ويقوده الى التشاؤم المرير.
عشق الطبيعة
لا أظـن أن شاعـراً أحـب الطبيعة أكـثر مما أحبـها أبو ماضي. لقد انعـكس جمالهـا في جمـال نفسـه, وصـفاء سمائـها في صفاء ألحانه, وانعكست عذوبة مائـها في عذوبة ألفـاظه ودقـة نواميسها في دقّـة ملاحظاتـه, وكأن الطبيـعة شعـرت بصدق حبـه لها, فباحـت لـه بأسـرار سحرهـا, وأباحـت له صوغها شعـراً.
كان أبــو ماضـي يرى في كائنـات الطبيعة الأصدقـاء الأوفـياء له. إذ كان كلما بثّهم شكـواه يجد عـندهم آذاناً صاغية, وقلوبـاً مفتوحة واعية, وكثيراً ما كان يلتـقي بأصدقـائه هؤلاء إما في أماكنـهم المعتـادة في البرية, أو في منـزل أحـد الرفـاق والأقربـاء. وقد فُجعت عينـاه ذات يوم برؤية زهـرة مسجونـة في إناء في أحـد الصالونـات الفخـمة, فتألم أشد الألـم لدى رؤيتـها, لأنـه لم يكن باستطاعتـه أن يخلّصها من سجنـها وعذابها. فأنشد:
"لعمرك ما حزني لمال فقدته ولا خان عهدي في الحياة حبيب
ولكنني أبكي وأندب زهرة جناها ولوع بالزهور طروب
رآها يحلّ الفجر عقد جنونها ويلقي عليها تبره فيذوب"
كان يـرى في الروابـي جـمالاً ومهابة, وفي خرير الجدول المنسـاب جذلاً وحبوراً, وفي المرج الخطيـب بشاشة وابتسامـة, وفي الوادي العميـق الأغـوار شعـوراً بالحزن والكآبـة, وكلما أرخـى اللـيل سدوله على الكائـنات, كانت عيـناه تبصـران ما فيها من جمـال. وقـد آل على نفـسه أن يكون رسـول الطبيعـة الى البشـر, ليدلهـم على مواطـن الجمـال فيهـا, وليحبـب إليهـم العيـش في أحضانـها والتـقرّب من كائنـاتها على غـرار ما دعـا إليه الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو.
فشاعرنـا يتأمل الطبيعة, ويـدرس مظاهرهـا, ويتتـبع أسرارهـا, شأنـه شأن كل شعراء الرابطة القلمية, فيخرج من دراسته وتأملاتـه بمقارنـات ومقابـلات وحكـم شتى, أهمـها أن الطبيعة صالحة تنفـع جميع البـشر, وتقدّم النفـع لهـم من دون أن تسأل, وهي لا تفرّق في تقديم نفعها بين إنسـان وآخـر, فيا ليـت الناس يقلدون الطبيعـة في العــطاء. ونجــد عنـد شاعرنــا نزعـة إنسانية خالصة, تسمـو على كل النزعـات, وروحـاً عالياً يفـوق كل الأرواح, إنـه يحـب الناس ويحـب الحياة التي أوجـدت الناس, ويدعوهـم الى محبتـها ففيـها كل الخـيـر والجـمـال.
أبو ماضي والحب
قبل زواجه اجتاز أبو ماضي عدداً من التجارب العاطفية القاسية, حيث كان يخرج منها في كل مرة صحيحاً سليماً, إلا تجربة واحدة فقط من بينها وهي تجربة كادت تصيب منه مقتلاً, جاعلة منه أحد الشعراء العشاق الكبار الباكين على فراق المحبوبة الظالمة, المتألمين من جراء صدّها المتعمد لهم.
وقد ظل شاعرنا فترة غير قصيرة مصدّقاً ما قالته المحبوبة له. وهو يعيش أسعد أيامه, لأنه كان يقضيها بقربها, وفجأة وجدها تتخلى عنه, تاركة إياه يندب فراقها, فيقول:
"إنما تلك أخلفت قبل ليلين من موعدي
لم تمت لا وإنما أصبحت في سوى يدي".
محبوبته هذه, جعلها عروسة قصيدته "الداليّة" وهي نفسها محبوبته هند التي جعلها عروسة قصيدته "الغابة المفقودة" حيث يحدثنا عن تلك الأيام العذبة الجميلة, والرحلات الخلوية الممتعة التي قام بها ومحبوبته الى تلك الغابات, قبل أن تصبح "في سوى يده" فيقول:
"يا لهفة النفس على غابة كنت وهنداً نلتقي فيها
أنا كما شاء الهوى والصبا وهي كما شاءت أمانيها
نباغت الأزهار عند الضحى متكآت في نواحيها
لله في الغابة أيامنا ما عابها إلا تلاشيها
طوراً علينا ظل أدواحها وتارة عطف دواليها
وتارة نلهو بأعنابها وتارة نحصي أقاحيها
وإن تضاحكنا سمعنا الصدى يضحك معنا في أقاصيه"
خصائصه الشعرية
إذا أردنا أن نتـتبع خصائص شعر أبي ماضي منذ ارتبط بالرابطة القلمية, فإننا سنجد الكثير من مميزاتها عنده, فهناك الشعر التأملي الروحي الذي يغلب على مقطوعاته في ديوانه الجداول من مثل: الناسكة, نار القرى, الزمان. وغيرها. وأصبحت المادة لا تعني شاعرنا بكثير أو قليل, فهو شاعر يعيش بالروح ويهتم بالنفس، أي أن من خصائصه الشعرية :
جنح إلى الرمز للتعبير عن أفكاره.
ـ اتّخذ من عناصر الطبيعة رمزاً لبعض الأفراد وخاصة في قصيدتيه (الحجر الصغير) و (التينة الحمقاء).
ـ جنح إلى التفكير والتأمل في الحياة والكون.
ـ دعا إلى التفاؤل والتمتّع بجمال الحياة.
و من أعماله
الجداول، الخمائل، تبر وتراب، تذكار الماضي.
تقسم مسيرة أبي ماضي الشعرية الى قسمين: قسم ما قبل الهجرة, وفيه لم يكن لشعره خصائص مميزة, والقسم الثاني ما بعد الهجرة, وفيه أظهر شاعريته الناضجة فكرياً, والمتحررة أسلوباً. وأهم ما نلاحظه في شعره هذا, الأسلوب الحواري, إذ نراه يخاطب أناساً يعرفهم ويأخذ منهم ويأخذون منه, كل ذلك في شعر متماسك موسيقي عذب ذي هدف.
إقلاعه عن التدخين
سُئل الشاعر المهجري ايليا أبو ماضي لماذا انقطع عن التدخين فأجاب: أدمنت التدخين إدمانا شديدا بحيث أني كنت استغني عن القداحة أحيانا إذ أشعل السيجارة من عقب السيجارة. ثم انقطعت فجأة عن التدخين وصرت أبغضه وأسعى إلى منع أصحابي عنه. أما السبب فهو: في إحدى السهرات الحميمة كنت أدخن كعادتي. وكان بين الساهرين طبيب خفيف الروح. قال لي أحدهم: يا صاحبي لماذا لا تُقلع عن التدخين فهو يضر بصحتك ويحرق مالك على غير طائل.
أجبته: إن للتدخين حسنات كثيرة، رغم سيئاته، منها إن السيجارة هي رفيقك الدائم تسليك وتفرج همّك وتساعدك على التفكير وتشحذ القريحة، لا سيما بالنسبة للشاعر.
وكان الطبيب يصغي إلى كلامي باهتمام فلما انتهيت قال: لقد نسيت يا صديقي فوائد أخرى للتدخين.
وتعجب الحاضرون كيف أن الطبيب يتحدث عن فوائد التدخين وتشجعت أنا إذ رأيت في الطبيب حليفا. لكن سروري لم يدم طويلا بعد أن ذكر الطبيب هذه الفوائد وشرحها، وهي: أولا: التدخين يُبعد الكلاب عن المنزل. وثانيا إنه يقضي على البرغش والهوام. وثالثا إن المُدخن لا يذوق طعم الشيخوخة. وإذ رآنا كلنا منذهلين ننتظر شرح هذه الفوائد قال: التدخين يبعد الكلاب لان المدخن يسعل سعالا شديدا يخيف الكلاب، ولأنه برائحته القوية السامة يقضي على البرغش والهوام، ثم أنه يقصر العمر فلا يذوق صاحبه طعم الشيخوخة لأنه مُعرض لمرض القلب فيموت فجأة.وعلى الفور أطفأت السيجارة وودعتها إلى الأبد.
وفاته
توفي ايليا أبو ماضي عام 1957 في أمريكا في الثالث و العشرين في شهر نوفمبر ، تاركا في قلوب إخوانه و أصدقائه حسرة ، و في صدور قارئي ما يسكبه قلمه غصة ، و انطوت بموت هذا الشاعر الفريد صفحة مشرقة بالرجاء و الأمل .و يروي الناقد المصري راضي صدوق أن أرملته و هي عربية لبنانية قد حرصت على قطع صلة أولادها باللغة العربية بعد وفاة والدهم .( 6 )
الوصايا:
أوصي إن الكل يتبع الشاعر إيليا في أعماله التي قام بها
اوصي بمتابعة اشعاره ومتابعة حياته والتعلم منها
الخاتمة:
لقد تناولت في تقريري هذا الكثير الكثير عن حياة الشاعر إيليا أبو ماضي ، فتحدثت عن ولادته و نشأته ، و اغترابه إلى الإسكندرية ، و من ثم للولايات المتحدة الأمريكية ، مرورا بالرابطة القلمية التي أسسها و برع فيها ، و عن عشقه للطبيعة و فلسفته ، بعد ذلك تطرقت لخصائص شعره و أعماله ، أضفت إلى تقريري قصة إقلاعه عن التدخين ، حيث أنها نالت إعجابي بصدق ، و تعمقت في حياته وصولا إلى أو ماضي و الحب نهاية ، و أيضا نبذه للطائفية ،اختتمت تقريري بوفاته .
لقد استفدت من هذه الشخصية في عدة إمور ، منها الإصرار و العزم على الحفاظ على اللغة العربية مع إنه هاجر إلة الولايات المتحة الأمريكية ، إلا أنه حافظ على لغته و أسس الرابطة الإقليمية و قاوم الاضطهاد الذي تعرض له في حياته ، فنتعلم الصبر ، و من أبرز أعماله التينةالحمقاء و الحجر الصغير حيث برع في كتابتهما ، كما أصبحت المادة لا تعني شاعرنا بكثير أو قليل, فهو شاعر يعيش بالروح ويهتم بالنفس و هو أول من جنح إلى استخام الرمز و عناصر الطبيعة رمزا لبعض الأفراد . أضف إلى ذلك دعوته إلى الجمال و التمتع بالحياة من خلال شعره .
الملاحق :
صورة الشاعر إيليا أبو ماضي
أهم مصادر الدراسة :
– كتاب ( إيليا أبو ماضي .. باعث الأمل و مفجر ينابيع التفاؤل ) ل د . عبد المجيد الحر ، دار الفكر العربي /بيروت – لبنان .
– كتاب ( إيليا أبو ماضي … شاعر السؤال و الجمال) لخليل برهومي .
( 1) كتاب ( إيليا أبو ماضي .. شاعر السؤال و الجمال )
( 2 ) كتاب ( إيليا أبو ماضي .. شاعر السؤال و الجمال )
( 3 ) كتاب ( إيليا أبو ماضي .. شاعر السؤال و الجمال )
( 4 ) كتاب ( إيليا أبو ماضي .. شاعر السؤال والجمال )
( 5 ) كتاب ( إيليا أبو ماضي .. شاعر السؤال و الجمال )
( 6 ) كتاب ( إيليا أبو ماضي .. باعث الأمل و مفجر ينابيع التفاؤل )
الفهرس
رقم الصفحة الموضوع
1 المقدمة
1 ولادته و نشأته
2 في الإسكندرية
3 عودة إلى الوطن
3 – 4 في المهجر الأمريكي
4 في الرابطة القلمية
5 فلسفة أبي ماضي
5 – 6 نبذ الطائفية
6 عشق الطبيعة
7 أبو ماضي و الحب
7 خصائصه الشعرية
8 أعماله
8 إقلاعه عن التدخين
8 وفاته
8 – 9 الخاتمة
9 الملاحق
9 مصادر الدراسة
موفقين
=)