(روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني)
سبب تأليفه..
قال الآلوسي رحمه الله تعالى بعد حمد الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وكانت كثيراً ما تحدثني في القديم نفسي إن أحبس في قفص التحرير ما أصطاده الذهن بشبكة الفكر أو أختطفه بان الإلهام في جو حدسي فأتعلل تارة بتشويش البال بضيق الحال وأخرى بفرط الملال لسعة المجال إلى أن رأيت في بعض ليالي الجمعة من رجب الأصم سنة الألف والمائتين والأثنتين والخمسين بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم رؤية لا أعدها أضغاث أحلام ولا أحسبها خيالات أوهام إن الله جل شأنه وعظم سلطانه أمرني بطي السموات والأرض ورتق فتقهما على الطول والعرض فرفعت يدا إلى السماء وخفضت الأخرى إلى مستقر الماء ثم انتبهت من نومتي وأنا مستعظم رؤيتي فجعلت أفتش لها عن تعبير فرأيت في بعض الكتب أنها إشارة إلى تأليف تفسير فرددت حينئذ على النفس تعللها القديم وشرعت مستعينا بالله تعالى العظيم وكأني إن شاء الله تعالى عن قريب عند إتمامه بعون عالم سري ونجواي أنادي وأقول غير مبال بتشنيع جهول :
هذا تأويل رؤياي وكان الشروع في الليلة السادسة عشرة من شعبان المبارك من السنة المذكورة وهي السنة الرابعة والثلاثون من سني عمري جعلها الله تعالى بسني لطفه معمورة.اهـ مقدمة تفسير الآلوسي.
مؤلف هذا التفسير هو: أبو الثناء، شهاب الدين، السيد محمود أفندى الآلوسي البغدادى. ولد فى سنة 1217 هـ (سبع عشرة ومائتين بعد الألف من الهجرة النبوية)، فى جانب الكرخ من بغداد.
كان رحمه الله شيخ العلماء فى العراق، وآية من آيات الله العظام، ونادرة من نوادر الأيام. جمع كثيراً من العلوم حتى أصبح علاَّمة فى المنقول والمعقول، فهَّامة فى الفروع والأصول، مُحَدِّثاً لا يُجارى, ومُفَسِّراً لكتاب خالد النقشبندى، والشيخ على السويدى، وكان رحمه الله غاية فى الحرص على تزايد علمه، وتوفير نصيبه منه، وكان كثيراً مما ينشد:
سهرى لتنقيح العلوم ألذُّ لى * من وصل غانية وطيب عناق
اشتغل بالتدريس والتأليف وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ودرس فى عدة مدارس، وعندما قُلِّد إفتاء الحنفية، شرع يُدَرِّس سائر العلوم فى داره الملاصقة لجامع الشيخ عبد الله العاقولى فى الرصافة. وقد تتلمذ له وأخذ عنه خلق كثير من قاصى البلاد ودانيها، وتخرَّج عليه جماعات من الفضلاء من بلاد مختلفة كثيرة، وكان – رحمه الله – يُواسى طلبته من ملبسه ومأكله، ويُسكنهم البيوت الرفيعة من منزلة، حتى صار فى العراق العَلَمُ المفرد، وانتهت إليه الرياسة لمزيد فضله الذى لا يُجحد، وكان نسيجٌ وحده فى النثر وقوة التحرير، وغزارة الإملاء وجزالة التعبير، وقد أملى كثيراً من الخطيب والرسائل، والفتاوى والمسائل، ولكن أكثر ذلك – علتى قرب العهد – دَرَسَ وَعَفت آثاره، ولم تظفر الأيدى إلا بالقليل منه، وكان ذا حافظة عجيبة. وفكرة غريبة، وكثيراً ما كان يقول: "ما استودعتُ ذهنى شيئاً فخاننى، ولا دعوتُ فكرى لمعضله إلا وأجابنى". قُلِّد إفتاء الحنفية فى السنة الثامنة والأربعين بعد المائتين والألف من الهجرة المحمدية، وقبل ذلك بأشهر، ولى أوقاف المدرسة المرجانية، إذا كانت مشروطة لأعلم لأهل البلد، وتحقق لدى الوزير الخطير علىّ رضا باشا، أنه ليس فيها من يدانيه من أحد. وفى شوَّال سنة 1263 هـ (ثلاث وستين ومائتين بعد الألف) انفصل من منصب الإفتاء، وبقى مشتغلاً بتفسير القرآن الكريم حتى أتمه، ثم سافر القسطنطينية فى السنة السابعة والستين بعد المائتين والألف، فعرض تفسيره على السلطان على المجيد خان، فنال إعجابه ورضاه، ثم رجع منها سنة 1269 هـ (تسع وستين ومائتين بعد الألف).
وكان – رحمه الله – عالماً باختلاف المذاهب، مطلعاً على الملل والنحل، سَلَفى الاعتقاد، شافعى المذهب، إلا أنه فى كثير من المسائل يُقلِّد الإمام الأعظم أبا حنيفة النعمان رضى الله عنه، وكان فى آخر أمره يميل إلى الاجتهاد. ولقد خَلَّف – رحمه الله – للناس ثروة علمية كبيرة ونافعة، فمن ذلك تفسيره لكتاب الله، وهو الذى نحن بصدده الآن، وحاشيته على القطر، كتب منها فى الشباب إلى موضع الحال، وبعد وفاته أتمها انبه السيد نعمان الألوسى، وشرح السلم فى المنطق، وقد فُقِد، ومنها الأجوبة العراقية عن الأسئلة اللاهورية، والأجوبة العراقية على الأسئلة الإيرانية، ودُرَّة الغواص فى أوهام الخواص، والنفحات القدسية فى المباحات الإمامية، والفوائد السنية فى علم آداب البحث.
وقد توفى رحمه الله فى يوم الجمعة الخامس والعشرين من ذى القعدة سنة 1270 هـ (سبعين ومائتين بعد الألف من الهجرة)، ودُفن مع أهله فى مقبرة الشيخ معروف الكرخى فى الكرخ، فرضى الله عنه وأرضاه.
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
ذكر مؤلف هذا التفسير فى مقدمته أنه منذ عهد الصغر، لم يزل متطلباً لاستكشاف سر كتاب الله المكتوم، مترقباً لارتشاف رحيقه المختوم، وأنه طالما فرق نومه لجمع شوارده، وفارق قومه لوصال خرائده، لا يرفل فى مطارف اللهو كما يرفل أقرانه، ولا يهب نفائس الأوقات لخسائس الشهوات كما يفعل إخوانه، وبذلك وفَّقه الله للوقوف على كثير من حقائقه، وحل وفير من دقائقه، وذكر أنه قبل أن يكمل سنة العشرين، شرع يدفع كثيراً من الإشكالات التى ترد على ظاهر النظم الكريم، ويتجاهر بما لم يظفر به فى كتاب من دقائق التفسير، ويعلق على ما أغلق مما لم تعلق به ظفر كل ذى ذهن خطير، وذكر أنه استفاد من علماء عصره، واقتطف من أزهارهم، واقتبس من أنوارهم، وأودع علمهم صدره، وأفنى فى كتابه فوائدهم حبره … ثم ذكر أنه كثيراً ما خطر له أن يحرر كتاباً يجمع فيه ما عنده من ذلك وأنه كان يتردد فى ذلك، إلى أن رأى فى بعض ليالى الجمعة من شهر رجب سنة 1252 هـ (اثنتين وخمسين ومائتين بعد الألف من الهجرة)، أن الله جَلّ شأنه أمره بطى السموات والأرض، ورتق فتقهما على الطول والعرض، فرفع يداً إلى السماء، وخفض الأخرى إلى مستقر الماء، ثم انتبه من نومه وهو مستعظم لرؤيته، فجعل يفتش لها عن تعبير، فرأى فى بعض الكتب أنها إشارة إلى تأليف تفسير، فشرع فيه فى الليلة السادسة عشرة من شهر شعبان من السنة المذكورة، وكان عمره إذ ذاك أربعاً وثلاثين سنة، وذلك فى عهد السلطان محمود خان بن السلطان عبد الحميد خان، وذكر فى خاتمته أنه انتهى منه ليلة الثلاثاء لأربع خلون من شهر ربيع الآخر سنة 1267 هـ (سبع وستين ومائتين بعد الألف)، ولما انتهى منه جعل يفكر ماى اسمه؟ وبماذا يدعوه؟ فلم يظهر له اسم تهتش له الضمائر، وتبتش من سماعه الخواطر، فعرض الأمر على وزير الوزراء علىّ رضا باشا. فسمَّاه على الفور: "روح المعانى، فى تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى".
هذه هى قصة تأليف هذا التفسير، كما ذكرها صاحبه عليه رضوان الله. وقد ذكروا أن سلوكه فى تفسيره هذا كان أمراً عظيماً، وسراً من الأسرار غريباً، فإن نهاره كان للإفتاء والتدريس وأول ليلة لمنادمة مستفيد وجليس، فيكتب بأواخر الليل منه ورقات، فيعطيها صباحاً للكُتَّاب الذين وظَّفهم فى داره فلا يكملونها تبييضاً إلا فى نحو عشر ساعات.
* مكانة هذا التفسير من التفاسير التى تقدمته:
ثم إن هذا التفسير – والحق يقال – قد أفرغ فيه مؤلفه وسعه، وبذل مجهوده حتى أخرجه للناس كتاباً جامعاً لآراء السَلَف رواية ودارية، مشتملاً على أقوال الخَلَف بكل أمانة وعناية، فهو جامع لخلاصة كل ما سبقه من التفاسير، فتراه ينقل لك عن تفسير ابن عطية، وتفسير أبى حيان، وتفسير الكشاف، وتفسير أبى السعود، وتفسير البيضاوى، وتفسير الفخر الرازى، وغيرها من كتب التفسير المعتبرة، وهو إذا نقل عن تفسير أبى السعود يقول – غالباً – : قال شيخ الإسلام. وإذا نقل عن تفسير البيضاوى يقول – غالباً – : قال القاضى، وإذا نقل عن تفسير الفخر الرازى يقول – غالباً – : قال الإمام. وهو إذ ينقل عن هذه التفاسير ينصب نفسه حَكَماً عدلاً بينها، ويجعل من نفسه نقَّاداً مُدققاً، ثم يبدى رأيه حراً فيما ينقل، فتراه كثيراً ما يعترض على ما ينقله عن أبى السعود، أو عن البيضاوى، أو عن أبى حيان، أو عن غيرهم. كما تراه يتعقب الفخر الرازى فى كثير من المسائل، ويرد عليه على الخصوص فى بعض المسائل الفقهية، انتصاراً منه لمذهب أبى حنيفة، ثم إنه إذا استصوب رأياً لبعض مَن ينقل عنهم، انتصر له ورجَّحَه على ما عداه.
* موقف الآلوسي من المخالفين لأهل السُّنَّة:
الآلوسي سَلَفى المذهب سُّنِّى العقيدة، ولهذا نراه كثياً ما يُفَنِّد آراء المعتزلة والشيعة، وغيرهم من أصحاب المذاهب المخالفة لمذهبه.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [15] من سورة البقرة: {ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}.. يقول بعد كلام طويل ما نصه: "
… وإضافته –
أى الطغيان – إليهم، لأنه فعلهم الصادر منهم، بقدرهم المؤثرة بإذن الله تعالى فالاختصاص المشعرة به الإضافة، إنما هو بهذا الاعتبار، لا باعتبار المحلية والاتصاف، فإنه معلوم لا حاجة فيه إلى الإضافة، ولا باعتبار الإيجاد استقلالاً من غير توقف على إذن الفعَّال لما يريد، فإنه اعتبار عليه غبار، بل غبار ليس له اعتبار، فلا تهولنك جعجعة الزمخشرى وقعقعته".
وانظر إلى ما كتبه قبل ذلك عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [7] من السورة نفسها: {خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} تجده يطيل بما لا يتسع لذكره المقام هنا، من بيان إسناد الختم إليه عَزَّ وجلَّ علىمذهب أهل السُّنَّة، ومن ذكر ما ذهب إليه المعتزلة فى هذه الآية وما ردَّ به عليهم، وفنَّد به تأويلهم الذى يتفق مع مذهبهم الاعتزالى.
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [11] من سورة الجمعة: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَارَةِ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ}.. يقول ما نصه: "وطعن الشيعة لهذه الآية الصحابة رضى الله تعالى عنهم، بأنهم آثروا دنياهم، على آخرتهم، حيث أنفضُّوا إلى اللَّهوا والتجارة، ورغبوا عن الصلاة التى هو عماد الدين، وأفضل من كثير من العبادات، لا سيما مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وروى أن ذلك قد وقع مراراً منهم، وفيه أن كبار الصحابة كأبى بكر وعمر وسائر العشرة المبشرة لم ينفضُّوا، والقصة كانت فى أوائل زمن الهجرة، ولم يكن أكثر القوم تام التحلى بحلية آداب الشريعة بعد، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر، فخاف أولئك المنفضُّون اشتداد الأمر عليهم بشراء غيرهم ما يُقتات به لو لم ينفضُّوا، ولذا لم يتوعدهم الله على ذلك بالنار أو نحوها، بل قصارى ما فعل سبحانه أنه عاتبهم ووعظهم ونصحهم، ورواية أن ذلك وقع منهم مراراً إن أ{يد بها رواية البيهقى فى شُعَب الإيمان عن مقاتل بن حيان أنه قال: بلغنى – والله تعالى أعلم – أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات، فمثل ذلك لا يُلتفت إليه ولا يُعَوِّل عند المحدِّثين عليه. وإن أريد بها غيرها فليبين وليثبت صحته، وأنَّى بذلك؟ وبالجملة: الطعن بجميع الصحابة لهذه القصة التى كانت من بعضهم فى أوائل أمرهم – وقد عقبها منهم عبادات لا تحصى – سفه ظاهر وجهل وافر.
* الآلوسي والمسائل الكونية:
ومما نلاحظه على الألوسى فى تفسيره، أنه يستطرد إلى الكلام فى الأُمور الكونية. ويذكر كلام أهل الهيئة وأهل الحكمة، ويقر منه ما يرتضيه، ويُفنَّد ما لا يرتضيه، وإن أردت مثالاً جامعاً، فارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيات [38، 39، 40] من سورة يس: {وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ *
وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ * لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلْلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}..
وارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [12] من سورة الطلاق: {ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} فسترى منه توسعاً فى هذه الناحية.
* كثرة استطراده للمسائل النحوية:
كذلك يستطرد الآلوسي إلى الكلام فى الصناعة النحوية، ويتوسع فى ذلك أحياناً إلى حد يكاد يخرجد به عن وصف كونه مفسِّراً، ولا أحيلك على نقطة بعينها، فإنه لا يكاد يخلو موضع من الكتاب من ذلك.
* موقفه من المسائل الفقهية:
كذلك نجده إذا تكلم عن آيات الأحكام فإنه لا يمر عليها إلا إذا استوفى مذاهب الفقهاء وأدلتهم مع عدم تعصب منه لمذهب بعينه.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية: [236] من سورة البقرة: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ}.. يقول ما
نصه: وقال الإمام مالك: المحسنون: المتطوعون، وبذلك استدل على استحباب المتعة وجعله قرينة صارفة للأمر إلى الندب، وعندنا: هى واجبة للمطلَّقات فى الآية، مستحبَة لسائر المطلَّقات. وعند الشافعى رضى الله عنه فى أحد قوليه: هو واجبة لكل زوجة مطلَّقة إذا كان الفراق من قِبَل الزوج إلا التى سمى لها وطُلِّقت قبل الدخول، ولما لم يساعده مفهوم الآية ولم يعتبر العموم فى قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ} لأنه يحمل المطلق على المقيد، قال بالقياس، وجعله مقدَّماً على المفهوم، لأنه من الحجج القطعية دونه، وأجيب عما قاله مالك، بمنع قصر المحسن على المتطوع، بل هو أعم منه ومن القائم بالواجبات، فلا ينافى الوجوب، فلا يكون صارفاً للأمر عنه مع ما انضم إليه من لفظ حقاً".
وإذا أردت أن تتأكد من أن الآلوسي غير متعصب لمذهب بعينه فارجع إلى البحث الذى أفاض فيه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [228] من سورة البقرة: {وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ}… الآية، تجده بعد أن يذكر مذهب الشافعية، ومذهب الحنفية، وأدلة كل منهم، ومناقشاتهم يقول: "وبالجملة، كلام الشافعية فى هذا المقام قوى، كما لا يخفى على مَن أحاط بأطراف كلامهم، واستقرأ ما قالوه، تأمل ما دفعوا به من أدلة مخالفيهم". * *
* موقفه من الإسرائيليات:
ومما نلاحظ على الآلوسي أنه شديد النقد للإسرائيليات والأخبار المكذوبة التى حشا بها كثير من المفسِّرين تفاسيرهم وظنوها صحيحة، مع سخرية منه أحياناً. فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [12] من سورة المائدة: {وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً}.. نجده يقص علينا قصة عجيبة عن عوج بن عنق، يرويها عن البغوى، ولكنه بعد الفراغ منها يقول ما نصه: "وأقول: قد شاع أمر عوج عند العامة، ونقلوا فيه حكايات شنيعة، وفى فتاوى العلاَّمة ابن حجر، قال الحافظ العماد ابن كثير: قصة عوج وجميع ما يحكون عنه، هذيان لا أصل له، وهو من مختلقات أهل الكتاب، ولم يكن قط على عهد نوح عليه السلام، ولم يسلم من الكفار أحد. وقال ابن القيم: من الأُمور التى يُعرف بها كون الحديث موضوعاً، وليس العجب من جرأة مَن وضع هذا الحديث وكذب على الله تعالى، إنما العجب ممن يُدخَل هذا الحديث فى كتب العلم من التفسير وغيره ولا يبيِّن أمره، ثم قال: ولا ريب أن هذا وأمثاله من صنع زنادقة أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء والسخرية بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسالم وأتباعهم .. ثم مضى الآلوسي فى تفنيد هذه القصة بما حكاه عن غيره مَن تقدّم من العلماء الذين استنكروا ههذ القصة الخرافية.
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [38] من سورة هود: {وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ}.. نجده يروى أخباراً كثيرة ارتفاعها، وفى المكان الذى صُنعت فيه.. ثم يُعقِّب على كل ذلك بقوله: "وسفينة الأخبار فى تحقيق الحال فيما رأى لا تصلح للركوب فيها، إذ هى غير سالمة عن عيب، فالحرى بحال مَن لا يميل إلى الفضول، أن يؤمن بأنه عليه السلام صنع الفُلْك حسبما قص الله تعالى فى كتاب، ولا يخوض فى مقدار طولها وعرضها وارتفاعها، ومن أى خشب صنعها، وبكم مدة أتم عملها إلى غير ذلك مما لم يشرحه الكتاب ولم تبينه السُّنَّة الصحيحة".
* تعرضه للقراءات والمناسبات وأسباب النزول:
ثم إن الآلوسي يعرض لذكر القراءات ولكنه لا يتقيد بالمتواتر منها، كما أنه يعنى بإظهار وجه المناسبات بين السور كما يعنى بذكر المناسبات بين الآيات ويذكر أسباب النزول للآيات التى أنزلت على سبب، وهو كثير الاستشهاد بأشعار العرب على ما يذهب إليه من المعاني اللغوية.
* الآلوسي والتفسير الإشاري:
ولم يفت الآلوسي أن يتكلم عن التفسير الإشارى بعد أن يفرغ من الكلام عن كل ما يتعلق بظاهر الآيات، ومن هنا عَدَّ بعض العلماء تفسيره هذا فى ضمن كتب التفسير الإشارى، كما عَدَّ تفسير النيسابورى فى ضمنها كذلك، ولكنى رأيت أن أجعلهما فى عداد كتب التفسير بالرأى المحمود، نظراً إلى أنه لم يكن مقصودهما الأهم هو التفسير الإشارى، بل كان ذلك تابعاً – كما يبدو – لغيره من التفسير الظاهر، وهذه – كما قلت من قبل – مسألة اعتبارية لا أكثر ولا أقل، وإنما أردت أن أُبيِّن جهتى الاعتبار.
وجملة القول.. فروح المعانى للعلاَّمة الألوسى ليس إلا موسوعة تفسيرية قيِّمة. جمعت جُلَّ ما قاله علماء التفسير الذين تقدَّموا عليه، مع النقد الحر، والترجيح الذى يعتمد على قوة الذهن وصفاء القريحة، وهو وإن كان يستطرد إلى نواح علمية مختلفة، مع توسع يكاد يخرجه عن مهمته كمفسِّر إلا أنه متزن فى كل ما يتكلم فيه، مما يشهد له بغزارة العلم على اختلاف نواحيه، وشمول الإحاطة بكل ما يتكلم فيه، فجزاه الله عن العلم وأهله خير الجزاء، إنه سميع مجيب.
إن شاء الله يعجبكم وتستفادوا منه..