بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
عروة بن الورد العبسي أبو الصعاليك،شاعر من شعراء الجاهلية وفارس من فرسانها وصعلوك من صعاليكها وأبطالها الميامين، اجتمعت فيه صفات النخوة والكرم والشجاعة والنبل والعفة، وإغاثة الملهوف، وحفظ الذمام، ورعاية حق الجار. ولا تكاد تذكر صفة من صفات الفضيلة إلا وجدتها عنده.
نشأ في قبيلة "عبس" ولم يكن ذا يسار، لأن ماله ينفقه كله في ما يراه حقاً عليه، من إطعام الجائع والسعي على الضعفاء والمساكين.
كان يكره الفقر كراهية تملؤها المرارة لأن نظرة الناس إلى الفقير فيها ازدراء واحتقار واستهانة، فيسعى إلى الغنى لأن الناس تقدر الغني وتوقره.
يقول في ذلك:
دعـيني للغنى أسعـى فـإني
رأيت الناس شرهـم الفقيـر
وأبعـدهم وأهـونهم عليهم
وإن أمسى له حسبٌ وخيـرُ
ويُلفى ذو الغنى وله جلالً
يكــاد فـؤاد صـاحبه يـطيــر
قـليـلٌ ذنبُـه والـذنبُ جــــمٌ
ولـكـن للغِـنى ربٌّ غـفـــــور
لذلك كان يلقي بنفسه في مهاوي الردى مغيراً على أعدائه، ليرجع إلى قومه وأهله غنياً فيغنيهم، يقول مخاطباً زوجته التي تحثه على حفظ ماله والبقاء بين أهله:
ذريني أطــوف فـي البلاد لعـلني
أخليك أو أغنيك عن سوء محضري
فـإن فــاز سهم للمنيـة لـم أكــــن
جزوعـاً وهل عن ذاك مـن متـأخـــر
وإن فاز سهمي كفّكم عن مقاعد
لكــم خلـف أدبـار البيـوت ومـنظـــر
كانت نفسه الأبيّة ترفض أن تتضاءل أمام غني يداريه الناس ويتقربون إليه، بل ربما كان موقف الناس من الغني أحد الدوافع القوية التي تهيب به إلى سلوك سبل المخاطر لأن في المال دعماً لقوة النفس كما يقول:
ومن يكُ مثلي ذا عيالٍ ومقتراً
من المالِ يطرح نفسه كل مطرح
ليبلغ عذراً، أو يصيب رَغيبة
ومبلـغُ نفسٍ عـذرهـا مثـل منجح
ويقول:
فلَلموتُ خيرٌ للفتى من حياته
فقيراً، ومن مولى تـدِبُّ عقـاربـه
وسائلـةٍ أيـنَ الرحيـلُ وسائلٍ
ومن يسألُ الصعلوك أين مذاهبُه
مذاهبُـه أن الفجـاج عريضـة
إذا ضـنّ عـنــه بـالفَعــال أقـاربُــه
وفي المال كذلك إغناء للأهل والجيران:
فــإذا غَـنيتُ فــإن جــاري نيلـه
من نائلي وميسّري معهـودُ
وإذا افتقرتُ فلن أرى متخشعاً
لأخي غِنىً، معروفُه مكدود
ولا يكتفي بهذا بل يحث الفقراء الصعاليك أن ينهجوا نهجه ويركبوا المخاطر والأهوال ليصيبوا غنى من غزوة أو غارة يشنونها على الأعداء. فيثني على أولئك الصعاليك الممتلئة نفوسهم بالشجاعة والنخوة والعزة، وينحي باللائمة على أولئك الصعاليك التعساء ذوي النفوس الخوارة الضعيفة التي تعيش بين بيوت الحي لا هم لهم إلا ملء بطونهم يعينون نساء الحي من غير طلب منهن ينامون على الأرض كالإبل المرهقة المتعبة:
لحى الله صُعلوكـاً إذا جَنّ ليلُه
مصافي المشاشِ آلفاً كل مَجزر
يَعُـدُّ الغِنـى من نفسـه كل ليلـة
أصاب قراها من صديق ميسّـــــر
يعين نساء الحي ما يستعِنـَّـــه
ويمسي طليحـاً كالبعيـر المحسّـر
ولكـنّ صُعلوكاً صفيحة وجهه
كضَـوءِ شهـاب القـابس المتنـور
مطـلاً علـى أعدائـه يزجرونـه
بساحتهـم زجَـر المنيـح المشهــر
فـذلك إن يلــق الـمنيـة يلقهــا
حميـداً وإن يستغـنِ يومـاً فـأجـدر
جوده وسخاؤه
اشــــتهر عروة بن الورد العبسي بالكرم، واستفاضت أخبار سخائه وجــــوده بين القــبائل العربيـة، يقول في ذلك:
وإني امرؤٌ عافي إنائي شِركة
وأنت امرؤٌ عافي إنائك واحِدٌ
أتهزأ مني أن سمنتَ وأن ترى
بوجهي شُحوبَ الحق والحق جاهِدُ
أُقسّم جسمي في جسوم كثيرة
وأحسـو قراحَ المـاءِ والمـاءُ بـارد
ويقــــول:
هـــــــــلا سـألـــتَ بني عـيلانَ كلهم
عند السنينَ إذا ما هبت الريحُ
قدحانِ: قدحُ عيال الحي إذ شبعـوا
وآخر لذوي الجيـران ممنـوحُ
ومن علامات الكرم وأماراته أن يلقى ضيفه بأسارير منبسطة ووجه مسفر، ويؤنسه بالحديث:
سَلي الطارق المعترّ يا أم مالك
إذا ما أتاني بين قدري ومجزري
أيسفر وجهي أنه أول القِــرى
وأبـذلُ معروفي لــه دون منكـري
ويقـــول:
فراشي فراشُ الضيف والبيتُ بيته
ولم يُلْهني عنــه غزالٌ مُقَنع
أحدّثُــه إن الحديـث مـــن القـــــرى
وتعلم نفسي أنه سوف يهجع
وقال فيه عبد الملك بن مروان:
من زعم أن حاتماً أسخى الناس فقد ظلم عروة بن الورد.
عروة والصعاليك
الصُعلوك في اللغة هو الفقــــير، وأطلقت كلمة الصعاليك في الجاهلية على مجمـــوعـــــة من الفـــــتّاك يغيـــرون فرادى أو جــــماعات، اشـــتهر منهم تأبـــط شــراً، والشـــنفرى، والسُــليك بن السلكة…
ولقب عروة بن الورد بعروة الصعاليك، لأنه كان يجمعهم ويقوم بأمرهم إذا أخفقوا في غزواتهم.
قال أبو الفرج الأصفهاني:
كان عروة بن الورد إذا أصابت الناس سنة شديدة تركوا في دارهم المريض والكبير والضعيف، وكان عروة بن الورد يجمع أشباه هؤلاء من عشيرته في الشدة ثم يحفر لهم الأسراب (الأنفاق) ويكنف عليهم الكنف (أي يقوم بتغطيتها لحمايتهم). ومن قوي منهم إما مريض فيبرأ، أو ضعيف تثوب قوته، خرج به معه فأغار وجعل لأصحابه الباقين في ذلك نصيباً حتى إذا أخصب الناسُ وألبنوا وذهبت السنةُ (الشدة والقحط) ألحق كل إنسان بأهله وقسم له نصيبه من غنيمة إن كانوا غنموها فربما أتى الإنسان منهم أهله وقد استغنى فلذلك سُمي: عروة الصعاليك.
وقال ابن الأعرابي: أجدب ناسٌ من بني عبس في سنة (يعني سنة قحط) أصابتهم فأهلكت أموالهم وأصابهم جوع شديد وبؤس، فأتوا عروة بن الورد فجلسوا أمام بيته، فلما بصروا به صرخوا وقالوا: ياأبا الصعاليك أغثنا فرقّ لهم وخرج ليغزو بهم ويصيب معاشاً، فنهته امرأته لما تخوفت عليه من الهلاك، فعصاها وخرج غازياً، فمر بمالك الفزاري فسأله أين يريد فأخبره، فأمر له بجزور (بعير) فنحرها فأكلوا منها، وأشار عليه مالك أن يرجع فعصاه ومضى حتى انتهى إلى بلاد بني القين فأغار عليهم، فأصاب هجمة (الهجمة من الإبل قريب من المائة) عاد بها على نفسه وأصحابه، وقال في ذلك:
أرى أم حسان الغداة تلومني
تخوفني الأعداء والنفس أخوف
تقول سليمى لو أقمتَ لسرنا
ولم تدر أني للمقام أطوف
لعل الذي خوفتنا من أمامنا
يصادفه في أهله المتخوف
وقـــــال:
أقيموا بني لُبنى صدور ركابكم
فكل منايا النفس خيرٌ من الهزل
فإنكم لن تبلغوا كل همتي
ولا أربي حتى تروا منبت الأثل
لعل ارتيادي في البلاد وحيلتي
وشدي حيازيم المطية بالرحل
سيدفعني يوماً إلى رب هجمة
يدافع عنها بالعقوق والبخل
عروة وسلمى
ذكر أبو عمرو الشيباني أن عروة بن الورد في إحدى غاراته أخذ امرأة من كنانة، بكراً يقال لها سلمى وتكنى أم وهب فأعتقها واتخذها لنفسه زوجة، فمكثت عنده بضع عشرة سنة وولدت له أولاداً وهو لا يشك في أنها أرغب الناس فيه.
وكانت تقول له: لو حججت بي فأمرّ على أهلي وأراهم فحج بها، فأتى مكة ثم أتى المدينة، وكان قومها يخالطون بني النضير فأتوهم وعروة عندهم مع سلمى.
فقالت سلمى لقومها إنه خارج بي قبل أن يخرج الشهر الحرام فتعالوا إليه وأخبروه أنكم تستحيون أن تكون امرأة منكم معروفة النسب صحيحته سبيةً، وافتدوني منه، فإنه لا يرى أني أفارقه ولا أختار عليه أحداً.
فأتوه فسقوه الشراب، فلما ثمل قالوا له: فادِنا بصاحبتنا فإنها وسيطة النسب فينا معروفة، وإن علينا سبةً (عاراً) أن تكون سبيّة، فإذا صارت إلينا وأردت معاودتها فاخطبها إلينا فإننا ننكحك. فقال لهم: ذاك لكم، ولكن لي الشرط فيها أن تخيروها، فإن اختارتني انطلقت معي إلى ولدها، وإن اختارتكم انطلقتم بها. قالوا: ذاك لك.
فلما فادوه بها وخيروها اختارت أهلها. ثم أقبلت عليه فقالت: يا عروة أما إني أقول فيك الحقَّ وإن فارقتك: والله ما أعلم امرأة من العرب ألقت سترها على بعل خير منك، وأغض طرفاً، وأقل فحشــــاً وأجــــود يداً وأحمى لحقيقته (ما يلزمه الحفاظ عليه والدفاع عنه) وما مر عليّ يوم إلا والموت أحب إليّ من الحياة بين قومك، لأني لم أكن أشاء أن أسمع امرأةً مــــن قومك تقـــول: قالت أمة عروة كذا وفعلت أمة عروة كذا.. فارجع راشداً إلى ولدك وأحسن إليهم .
م/ن