الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أنبياء الله أجمعين، عليهم وعلى نبينا أزكى الصلاة وأتم التسليم، وبعد:
فقد تعرض العالم الإسلامي لهجمات وحشية على مدى تاريخه البعيد، فقتل الصليبيون تسعين الفاً في حملتهم على بيت المقدس، لكنهم على كل حال لم يبلغوا ما بلغه التتار الذين قتلوا في بغداد وحدها زهاء مليوني مسلم.
وفي العصور الحديثة ظهر المستعمرون الجدد، وحطوا مراسيهم في موانئ العالم الإسلامي، لكن حتى لا نسيء الظن بهم والتقدير؛ فإنهم إنما قدموا لعمارة بلادنا وانتشالها من وهدة الجهل والفقر، لقد تركوا بلادهم وضحوا بملاذهم لغاية نبيلة وهي انتشالنا من واقعنا المرير.
وبعد سنوات مريرة ممزوجة بمئات الألوف بل الملايين من التضحيات غادر المستعمرون بلادنا وقد ازددنا فقراً ومرضاً، غادروها بعد أن أصبحنا رهناً لحضارتهم وثقافتهم، ويبقى السؤال يتجلجل في أذهاننا: لم قدم هؤلاء؟ هل أتوا لتحقيق مصالحهم الاستعمارية فحسب؟ أم اجتمعت إليها أهداف دينية، حملت المستعمر إلينا من جديد.
واليوم في القرن الواحد والعشرين يعود حاملو رايات الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية المرأة من جديد، ليبذلوا المزيد من دمائهم وميزانياتهم في سبيل انتشالنا من سطوة الدكتاتورية، إنهم لا يطيقون رؤيتنا بغير ديمقراطية!
لكن بذلهم زتضحيتهم لن يمنعنا من التساؤل: هل خلف هذه الأستار خلفية دينية تدفعهم للعودة إلينا من جديد؟ هل هي حملة صليبية جديدة كما قال بعضهم؟
إذا كنا لا نستطيع فهم حاضرنا اليوم، أو لا نجرؤ على البوح بما فهمناه؛ فإننا ولاريب يمكننا استخلاص العبر من تاريخنا القريب، حتى لا تتكرر مآسينا، فالتاريخ كثيراً ما يعيد نفسه.
في هذه الدراسة أقدم دراسة تاريخية للاستعمار الحديث خلال القرنين الماضيين ودوافعه الدينية، وما خلفه من دمار ومآس يشيب لذكرها الولدان.
وتأتي هذه الدراسة في ثلاثة مباحث، الأول منها أتحدث فيه عن الاستعمار وتاريخه القريب ودوافعه الدينية وما خلفه من مآسي في عالمنا.
وأما الثاني منها فخصصته للحديث عن التبشير، واستعرضت اهدافه وبعض المحطات المهمة في تاريخه في العالم الإسلامي.
وفي الأخير منها درست العلاقة بين التبشير والاستعمار خلال القرنين الماضيين.
والله أسأل أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجنبني موارد الزلل، إنه جواد كريم.
الأستعمار
مصطلح الاستعمار
الاستعمار لفظة محدثة مشتقة من عَمَر، واستعمره في المكان أي جعله يعمره، ومنه قوله تعالى: } هو الذي أنشأكم في الأرض واستعمركم فيها { (هود: 61).
فالأصل اللغوي يفيد معنى طلب التعمير والسعي لتحقيق العمران، لكن الواقع لا علاقة له بالمعنى اللغوي.
ويعرف الشهابي وحبنكة الاستعمار موافقين لما جاء في المعجم الوسيط بأنه استيلاء دولة أو شعب على دولة أخرى وشعب آخر لنهب ثرواته وتسخير طاقات أفراده والعمل على استثمار مرافقه المختلفة. (1)
وهذا التعريف يشمل أنواع مختلفة من الاستعمار لاتختلف عن بعضها إلا بالأسماء وبعض الأشكال، فمن أشكال الاستعمار أن تضع دولة ما أخرى تحت حمايتها وإشرافها وتسلبها من حريتها بقدر ما يتناسب مع قوة هذه الدولة وضعف تلك، وفي الأغلب يكون للدولة المحمية شبه سيادة داخلية يمارسها حكام وطنيون تديرهم الدولة المستعمرة من خلف ستار.
ومن أمثلة هذا الشكل للاستعمار ما فعلته فرنسا في تونس حيث وقعتا معا معاهدة حماية في 12/5/1881م، ثم جددت في 8/6/1883م، وبموجب بنود هذه الحماية فقدت تونس سيادتها الخارجية وحقها في التمثيل الدبلوماسي المستقل، كما سلبت حق إبرام المعاهدات الخارجية، وعينت فرنسا آلاف الموظفين يرعون مصالحها يرأسهم المقيم العام.
وما حصل في تونس كررته فرنسا في مراكش بموجب معاهدة 30/3/1912م وفعله الإنجليز في مصر خلال احتلالهم لها بين عام 1914 – 1922م. (2)
وبعد الحرب العالمية الأولى ظهر شكل جديد من أشكال الاستعمار أقرته عصبة الأمم المتحدة التي تكونت حينذاك كمنظمة أممية لنشر السلام ومنع الحروب، فقد كرست عصبة الأمم نوعاً جديداً من الاستعمار وهو الانتداب، حيث ورد إجازته في المادة 22 لميثاق عصبة الأمم التي اعتبرته طريقة للنهوض بالشعوب القاصرة والأخذ بيد هذه الأمم لتكون قادرة على تسيير أمورها، لكنه في الحقيقة كان مظهراً للاستعمار ووسيلة لامتصاص خيرات الشعوب. (3)
وفيما عدا هذين الوجهين أسفر الاستعمار عن وجهه الكالح، فأعلن عن ضمه لبعض الدول إلى مستعمراته كما فعلت فرنسا بالجزائر.
رؤية تاريخية للاستعمار
وقد بدأ الاستعمار الغربي للعالم مع بداية عصور النهضة في أوربا حيث استفاقت أوربا على وقع طبول الإصلاح الديني والسياسي في القرن الخامس و السادس عشر.
ومنذ أفاقت أوربا بدأت تحركها للإطباق على العالم الإسلامي، فانتشرت المراكب الاستكشافية تجوب البحار بحثاً عن تحقيق أهداف الاستعمار المختلفة الدينية والسياسية والاقتصادية.
وفي عام 1499م توصل فاسكودي جاما إلى طريق رأس الرجاء الصالح، فوصل البرتغاليون إلى الشواطئ الهندية بعيداً عن المرور في الأراضي الواقعة في سلطة الخلافة العثمانية.
وشرع البرتغاليون يؤسسون مستعمرات ومراكز تجارية في أماكن مختلفة من السواحل التي وصلوا إليها، ولم يكد النصف الأول من القرن السادس عشر ينقضي حتى كان البرتغاليون قد أحكموا السيطرة على شواطئ شرق أفريقيا وغربها إضافة إلى شواطئ الخليج وفارس والهند. (4)
وفي عام 1600م أنشئت بريطانيا أول جهاز استعماري لها تحت مسمى شركة الهند الشرقية البريطانية، ومثله صنعت فرنسا عام 1664م فأنشئت ما أسمته بشركة الهند الشرقية الفرنسية، وبدأ الصراع والتنافس بين الدولتين، وانتهى بانتصار الإنجليز عام 1775م ( 1171هـ ) وخروج فرنسا من الهند والصين.
وفي عام 1798م ( 1213هـ ) وصل نابليون يقود الحملة الفرنسية على مصر ثم حاول السيطرة على بلاد الشام، فغادر وهو يحمل أدراج الخيبة لكثر من قتل من جنوده هناك، ثم ما لبث أن عاد إلى فرنسا ولحقته جيوشه عام 1801م.
وفي عام 1827م أعلن الملك شارل العاشر اعتزام فرنسا إنشاء مستعمرة ذات شأن في شمال أفريقيا، وزحفت الجيوش الفرنسية لاحتلال الجزائر عام 1830م، واستتب الوضع لهم عام 1857م وهو نفس العام الذي قضت فيه بريطانيا على الإمارة الإسلامية المنغولية في الهند، وقد ألحقت فرنسا الجزائر بها عام 1881م، وهي نفس السنة التي أعلنت فرنسا وضعها تونس تحت الحماية الفرنسية بموجب ميثاق باردو، ثم السنغال ومدغشقر عام 1882م، في عام 1887م (1295هـ ) وقع مؤتمر برلين لاقتسام مواقع النفوذ في الوطن العربي. وتوالى بعد ذلك سقوط البلاد العربية والاسلامية في قبضة الاستعمار.
فسيطر الفرنسيون على المغرب سنة 1912م، وعلى سورية سنة 1920م.
وأما الإيطاليون فاحتلوا الصومال وأريتريا عام 1887م، وزحفت إيطاليا لاحتلال الساحل الليبي عام 1914م، وأكملت الاحتلال عام 1914م.
فيما احتلت انجلترا مصر ووضعتها تحت الحماية عام 1882م، وكانت قد احتلت بلاد البنغال عام 1757م، والبنجاب عام 1849م، ثم احتلت نيجيريا عام 1851م. وفي عام 1898م احتلت بريطانيا السودان ثم العراق 1919م، ثم الأردن عام 1920م.
وفي المشرق الإسلامي انقض الروس الأرثوذوكس على بلاد المسلمين فأخذوا ما يحاذيهم منها، وضموه إلى بلادهم، ففي 1670م دخل الروس بلاد الأورال، وأحكموا السيطرة على مسلميها، وفي عام 1859م ضمت روسيا طشقند، ثم القوقاز عام 1864م، ثم بخارى عام 1882م، فيما دخلت بلاد التركستان تحت سيطرة الروس عام 1884م. (5)
وقد استمرت السيطرة الروسية على بعض هذه البلاد إلى يومنا هذا فيما نجت بلاد أخرى، وشكلت حكومات مستقلة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1990م.
فيما تحررت البلاد الإسلامية جملة من الاستعمار الفرنسي والإنجليزي والإيطالي ( العسكري ) في أواسط القرن العشرين.
دوافع الاستعمار الأوربي
نستطيع القول بأن ميل النفس إلى الصراع والطموح إلى الأفضل جِبلّة بشرية جاءت النبوات لتهذيبها وجعلها عبادة يراد منها إقامة دين الله وإزالة الطغيان.
وعليه فالسيطرة من القوي على الضعيف ليس بجديد، ولم يكن الأوربيون أول من مارسه، وإن كان للتوقيت والمكان الذي انطلقوا إليه مرامي ينبغي أن لا يغيب عن أذهاننا كما لاينبغي أن يفوتنا بعض أسباب القسوة والهمجية التي تميز بها الاستعمار الأوربي.
فقسوة الأوربي في المستعمرات التي بسط سلطانه عليها – كما يرى الغزالي – منسجم مع قسوة الغربيين وجلافتهم وقرب عهدهم بالهمجية والتخلف.
وتزيد هذه الوحشية ضراوة عند النصارى عن غيرهم بسبب ما تحدثه عقيدة الفداء من آثار سلبية إذ هي تمنح النصراني اعتقاداً بنجاته على الرغم مما يحدثه من ذنوب وفظائع، إذ يكفيه الإيمان بالمسيح لينجوا، أو يكفيه أن يحصل على صك غفران من أحد آباء الكنيسة ليدخل في ملكوت الله، وعليه فهو لايبالي بالوحشية والقسوة التي يتعامل بها مع الشعوب المستضعفة.
وينبه الغزالي إلى أن ثمة أمراً مهماً يحتم على النصارى الاتجاه إلى الاستعمار وهو فقد النصرانية لوسائل الإقناع وعجز رجال الكنيسة عن شرح العقائد النصرانية في ضوء المعطيات العقلية.
فإذا أراد النصارى بعد ذلك نشر النصرانية لم يجدوا سوى السيف بديلاً يستجيب الناس من خلاله لمنطق القوة الغالبة، فكان الاستعمار حلاً ناجعاً لقصور العقائد والعبادات النصرانية. (6)
وبدراسة الحملة الفرنسية وتحليل تاريخها يتوصل محمود شاكر إلى أمر هام مفاده أن الاستعمار يتحرك باتجاه البلاد الإسلامية ليس طمعاً في ثرواتها فحسب، وليس بهدف تبشيرها فقط، بل إنه يقرأ مسيرة الأمة الإسلامية من خلال الدراسات الاستشراقية الغربية، فإذا ما وجد محاولة جادة للنهوض بهذه الأمة من كبوتها تحرك لوأد هذا المولود قبل أن يكبر ويعيد ما كان قبل قرون.
وحملة نابليون على مصر أحد الأحداث الهامة التي يرى بعض المستغربين من أبناء المسلمين أنها كانت انطلاقة نحو النهضة، ولذا رأينا قبل شهور احتفالات هؤلاء بذكرى مرور مائتي سنة على دخول نابليون مصر.
وفي بيان حقيقة ما صنعه نابليون – وهو نموذج استعماري تكرر بشكل أو بآخر – يذكر محمود شاكر أن نهضة مصر إسلامية بدأت تعم عدداً من الأقطار الإسلامية وذلك في مطلع القرن الحادي عشر، ومن رواد هذه النهضة عبد القادر البغدادي ( ت1093هـ ) صاحب " خزانة الأدب " وحسن الجبرتي (الجبرتي الكبير) ( ت 1188هـ ) وكلاهما كان في مصر، ومحمد بن عبد الوهاب ( ت 1206هـ ) في الجزيرة العربية، والمرتضى الزبيدي ( ت 1205هـ ) صاحب " تاج العروس " في الهند ومصر، ومحمد على الشوكاني ( ت 1250هـ ) في اليمن.
فقد كان كل واحد من هؤلاء في موطنه معلماً من معالم النهضة الجديدة، فالجبرتي يقول ابنه الجبرتي ( الصغير ) في تاريخه وحضر إليه طلاب من الإفرنج، وقرأوا عليه علم الهندسة…. وأهدوا إليه من صنائعهم وآلاتهم أشياء نفيسة، وذهبوا إلى بلادهم، ونشروا بها ذلك العلم من ذلك الوقت…. ".
وهذه النهضة وإن كانت متباعدة الديار فإنها كما يصف محمود شاكر " قريبة التواصل وشيكة الالتئام".
وأرسلت نذر الاستشراق في بلاد المسلمين إلى أوربا مطالبة إياها بالتحرك قبل فوات الوقت، وكان من هذه الدعوات دعوة الكونت سان بريست سفير فرنسا في الأستانة 1768 – 1778م، والبارون دي توت الذي عاد من تركيا سنة 1776م ناصحاً باحتلال مصر، ومنهم التاجر مجالون الذي أقام في مصر ثلاثين سنة، ثم عاد إلى فرنسا عام 1797م، ثم سرعان ما عاد في ركاب حملة نابليون بعد أن قدم تقريراً ينصح فيه بغزو مصر، لكن هذه الدعوى المتكررة والملحة التي صدرت عن القناصل والتجار المبشرين لم تجد – في بادئ الأمر – صدىً عند ساسة أوربا، وحين قامت الثورة الفرنسية أصاخ نابليون إلى نذر الاستشراق الذين دعوه للقدوم إلى مصر بحجة قمع المماليك الذين أشاعوا مظالم استوجبت غضب العلماء والعامة، وكان بعض علماء الأزهر قد أطفئوا فتنة على المماليك أثارها العامة، فاستتابهم بعض علماء الأزهر من ذلك، لكنهم سرعان ما عادوا إلى ظلمهم وفسادهم. فحضر ومعه المستشرق الذي قضي في بلاد المسلمين أربعين سنة (كليبر) إلى مصر عام 1798م فعاث في مصر الفساد، وتصدى له العلماء وتلاميذهم فأحدث فيهم القتل، وحكى الجبرتي في تاريخه أنه في كل يوم كان يقتل خمسة أو ستة من الثائرين على فرنسا، ويطاف برؤسهم في شوارع القاهرة. وهؤلاء كما يؤكد محمود شاكر هم ورثة حركة النهضة من تلاميذ الجبرتي والزبيدي.
وقد أصاخ الفرنسيون مرة أخرى إلى جيش الاستشراق الذي رافقهم، فادعى قائد الحملة – بعد رحيل نابليون ومقتل كليبر – القائد مينو الإسلام في عام 1800م ( 1215هـ ) وتزوج ابنة أحد أعيان رشيد.
وسرعان ما اضطرت فرنسا تحت الضغط الشعبي للثورة العارمة التي يقودها علماء الأزهر، أن يخرجوا في عام 1801م وهم يحملون أنفس كتب المسلمين، يقول الجبرتي بعد أن عدد أسماء لكتب تاريخ كانت في القاهرة : " هذه أسماء من غير مسميات، فإنا لم نر من ذلك كله إلا بعض أجزاء مدشتة بقيت في خزائن الأوقاف بالمدارس مع تداولته أيدي الصحافين، وباعها القومة والمباشرون، ونقلت إلى بلاد المغرب والسودان، ثم ذهبت بقايا البقايا في الفتن والحروب، وأخذ الفرنسيون ما وجدوه إلى بلادهم.
وأسلم العلماء المنتصرون قيادة مصر إلى ضابط تركي هو محمد علي ششمة، فغدر بالعلماء ونفى بعضهم وتقرب إليه قناصل الاستعمار، وأصبحوا بطانته وخاصته، فأكملوا بسيفه وخيانته ما عجزت عنه حملة فرنسا، فأغروه بالبعثات العلمية إلى فرنسا، فكان رفاعة الطهطاوي أحد أفراد أول بعثه مصرية استقبلها المستشرق جومار في فرنسا عام 1826م، وصاغها هو وأعوانه من المستشرقين وفق خطتهم لتدمير النهضة الإسلامية.
ثم وقعت الحرب بينه وبين الدعوة الإصلاحية في الجزيرة العربي ولمدة ثمانية أعوام (1226 – 1235هـ ) ( 1811 – 1819م )، وشغل ذلك النهضة الإسلامية عن التكامل والتواصل، وشغلها أيضاً عن مواصلة حركتها العلمية بحمل السلاح والدفاع عن الحرمات والأوطان، وهكذا اتسع الفارق بين الغرب والمسلمين من جديد. (7)
فمن هذه الدراسة الواعية لمحمود شاكر نرى بوضوح تجربة من تجارب الاستعمار، وأنموذجاً من الكيد الاستعماري الذي استمر طوال قرنين من الزمان.
أعمال الاستعمار
وخلال تاريخ الحركة الاستعمارية الغربية للعالم الإسلامي وبقية المستعمرات أظهر المستعمر الغربي صوراً قاتمة كالحة ملؤها الظلم والقهر والاستغلال.
فعلى الصعيد الإنساني ارتكب المستعمرون مجازر بحق الشعوب التي قامت تدافع عن دينها وخيراتها، فقد بلغت أعداد قتلى المسلمين في الهند حتى عام 1880م مليون مسلم سقطوا على يد الإنجليز، ومثله كانت الجزائر بلد المليون شهيد.
وكان البرتغاليون قد أحدثوا مجازر عند سيطرتهم على الشواطئ الهندية، ويسجل القائد البرتغالي البوكيرك بفخر بعضاً منه وهو يخاطب ملك البرتغال مهنئاً إياه بالسيطرة على مقاطعة جوا الهندية فيقول : " وبعد ذلك أحرقت المدينة، وأعملت السيف في كل الرقاب، وأخذت دماء الناس تراق أياماً عدة…. وحيثما وجدنا المسلمين لم نوقر معهم نفساً، فكنا نملأ بهم مساجدهم، ونشعل فيها النار، حتى أحصينا ستة آلاف روح هلكت، وقد كان ذلك يا سيدي عملاً عظيماً رائعاً أجدنا بدايته وأحسنا نهايته ".
وفي مدغشقر قتلت القوات الفرنسية ثمانين ألف في ضربة واحدة للثائرين من سكان الجزيرة، فيما أعمل الإنجليز القتل في قبائل ماو ماو الأفريقية، ثم ادعوا أن وحوشاً مفترسة ظهرت في المنطقة وتخطفت الآلاف إلى مصارعهم.
وفي الجزائر يقول الجنرال الفرنسي شان : " إن رجاله وجدوا التسلية في جز رقاب المواطنين من رجال القبائل الثائرة في بلدتي الحواش وبورقيبه ".
ويخط الماريشال سانت أرنو إلى زوجته بعض ما صنعه وجنوده في الجزائر فيقول : " إن بلاد بني منصر بديعة، وهي من أجمل ما رأيت في أفريقيا، فقُراها متقاربة، وأهلها متحابون، لقد أحرقنا فيها كل شيء، ودمرنا كل شيء… أكتب إليك يحيط بي أفق من النيران والدخان، لقد تركتني عند قبيلة البزار فأحرقتهم جميعاً، ونشرت حولهم الخراب، وأنا الآن عند السنجاد أعيد فيهم الشيء نفسه ولكن على نطاق أوسع ".
ويقول مونتياك في كتابه " رسائل جندي " وهو يصف إحدى المذابح التي حضرها : "لقد كانت مذبحة شنيعة حقاً، كانت المساكن والخيام في الميادين والشوارع والأفنية التي انتشرت عليها الجثث في كل مكان، وقد أحصينا في جو هادئ بعد الاستيلاء على المدينة عدد القتلى من النساء والأطفال فألفيناهم ألفين وثلاثمائة، وأما عدد الجرحى فلا يكاد يذكر لسبب هو أننا لم نترك جرحاهم على قيد الحياة ".
وقد بلغ عدد القتلى في مدينة سطيف في مايو 1945م ما يقرب الأربعين ألفاً.
ويشنع الكونت هيريسيون على هذه القبائح التي لا مبرر لها فيقول : " فظائع لا مثيل لها، أوامر الشنق تصدر من نفوس كالصخر يقوم بتنفيذها جلادون قلوبهم كالحجر… في أناس مساكين جُلُّ ذنبهم أنهم لايستطيعون إرشادنا إلى ما نطلب إليهم أن يرشدونا إليه ".
وقد تفنن المستعمرون في طرق إبادة هذه الشعوب، ومما أبدعوه في هذا الباب طريقة يسمونها "جهنم" حيث يتبع الجنود الهاربين من النساء والأطفال والرجال إلى الكهوف فيشعلون عند باب الكهف ناراً عظيمة، فيموت من بداخله حرقاً أو خنقاً ". (8)
وفي جنوب أفريقيا سيطر الاستعمار ففرض القوانين الجائرة والضرائب، ومنح البيض في عام 1913م 88% من أراضي جنوب أفريقيا وفرض على السود دون البيض مصروفات الدراسة، وأمر بأن يدفع كل أسود بين سنة 12 – 65 سنة ضريبة عن نفسه وأخرى عن كوخه.
وقد أضر المستعمرون بمصالح المزارعين حين أمروهم بزراعة بعض المحاصيل دون بعض، ثم شروها منهم بأبخس الأثمان.
ففي عام 1951م باع فلاحو الجزائر قنطار الزيتون بـ 2022 فرنك في حين كانوا يبيعونه قبل دخول فرنسا بـ 5000 فرنك فرنسي.
وأجبر الفرنسيون السكان في أفريقيا الاستوائية على زراعة القطن عام 1955م، ثم باعوه لأربع شركات استعمارية بما ثمنه 72 -60 فرنكاً للكيلو، فيما باعه المستعمرون بسعر 245-285 فرنكاً في مرفأ التصدير.
وقد كان كيلو القطن المستورد في فرنسا يماثل – في مراكش – أربعة مرات كيلو القطن المصدر، وذلك في عام 1938م، ثم ارتفع إلى ست مرات في عام 1949م ومثله يقال في القطن التونسي.
وفي نيجيريا يباع الخشب أكثر من سعره بـ 30 – 40 %، وباعت بلجيكا كيلو زيت النخل في مستعمراتها بـ 110 فرنكاً بدلاً من 75 فرنكا. (9)
وتعترف إحدى مجلات الاستعمار بهذا الاستغلال فتقول : " المستهلكون في البلاد المستعمرة كانوا يتلقون عام 1953م ما يبلغ 80% من مستورداتهم بأسعار أكثر أرتفاعاً بـ 20 – 50% وأحياناً أكثر أيضاً من الأسعار التي كانوا يحصلون عليها لو أتيح لهم أن يستوردوا بضائهم من بلد آخر غير فرنسا. (10)
وفي مظهر آخر للاستعمار وظف المستعمر أبناء جلدته في مؤسسات الدول المستعمرَة، وأبعد أهل البلاد الأصليين، ومن ذلك أن فرنسا وظفت في الجزائر في الدوائر العقارية 200 موظف منهم ثمانية فقط من الجزائريين، فيما لم يبلغ عدد المغاربة في وزارة الشئون الإجتماعية في المغرب سوى أربعة من الحُجَّاب فيما قارب الفرنسيون المائتين والخمسين. (11)
وأجبر السكان الأصليون تحت مظلة المستعمر على العمل بأبخس الأجور، ففي حين كانت الأسعار في الجزائر مقاربة للأسعار في فرنسا كان العامل الجزائري يحصل على 40 – 70 فرنكاً لقاء عمله اليومي، في حين أن العامل الفرنسي يحصل على أكثر من ضعف المبلغ في فرنسا، وقد كان سعر كيلو الخبز يومذاك في الجزائر 48 فرنكاً وكيلو السكر 94، واللبن 25 فرنكاً فيما كان اللحم الردئ يباع الكيلو منه بـ 400 – 500 فرنك فرنسي.
وكتب النائب الأسقفي في داكار عاصمة السنغال يشكو الظلم الذي يقع على العمال الذين يسميهم بالمؤقتين والذين يحصلون على أجر شهري يتراوح بين 800 – 1200 فرنكاً في حين أن أحقر كوخ كان يؤجر بـ 3500 فرنك شهرياً إضافة إلى ما يدفعه من ضرائب تصل إلى 1800 فرنك سنوياً. (12)
وقد كان العمال في صفاقص من عمال شركة الفوسفات الفرنسية يسكنون بمعدل 10 عمال في كل كوخ، فيما تحدثت الصحف الفرنسية عن مدينة التنك ( مراكش ) حيث يسكن 202200 من العمال وعوائلهم في بيوت أو أكواخ من التنك أو الخشب الذي يلتقطونه من مخلفات الشحن، وقد تحدثت إحدى الصحف الفرنسية عن القسوة البالغة التي يعيشها العمال المغاربة وعائلاتهم في هذه البيوت من غير توفر أي إجراءات تضمن صحتهم وسلامتهم. (13)
ونتيجة لضعف رواتب العمال في مراكش وانتشار الفقر بأبشع صوره كتب أحد أطباء وادي الداد في جنوب مراكش: " إن الأطفال في هذه البلاد يأكلون التراب. لماذا ؟ أذلك من الفقر أو الجوع أم أنها عادة مجهولة المنشأ ؟ لا أستطيع أن أقول شيئاً، ولكن هذا الواقع ماثل هنا. إن الأطفال يأكلون التراب ويصابون بالأمراض الخطيرة : فقر الدم وتضخم الطحال…. ". (14)
وقد اقتصر غذاء الأسرة المراكشية في الغالب على عدة أقراص من الشوفان، فيما ذكرت إحصائيات فرنسية في عام 1945م أنه " من أصل المليون والثلاثمائة عائلة جزائرية تعيش من الزراعة وتربية المواشي ثمة 800 ألف إلى مليون يجب أن تعتبر عائلات محتاجة ومعوزة ". (15)
وأما المشاريع التي أقامها الاستعمار في البلاد المستعمرة فإنما أقامها لحماية مصالحه " فالجهود المبذولة لكهربة المراكز الثانوية والريفية يجب أن يكون مفهوماً أن التجهيزات المنتظرة إنما يجب أن تقتصر فقط على المشروعات ذات الدخل المضمون.
أما برنامج النقليات فعليه أن يقتصر في الدرجة الأولى على إنشاء وسائل النقل وطرق المواصلات المرتبطة مباشرة بأهداف الانتاج المعينة في المشروع والتي تؤلف على كل حال أحد العوامل الجوهرية لنجاحه ".(16)
ورغم الاستغلال الواسع للموارد الطبيعية والقوى البشرية فإن المستعمر لم يقدم أبسط الخدمات الإنسانية وهي الصحة والتعليم ففي الجزائر التي اعتبرتها فرنسا جزءً منها لم يستطع سوى 12% من أطفال الجزائر ممارسة عملية التعلم، وانخفضت النسبة في مراكش إلى 10%، وفي أفريقيا الغربية إلى 7.6 %، وفي تشاد إلى 4.7%، فيما ارتفعت في أفريقيا السوداء إلى 18% من أطفال تلك البلاد.
ويخلص هنري كلود إلى أن نسبة التعليم في المستعمرات الفرنسية جملة لا يتجاوز 9 % من أطفال المستعمرات الفرنسية. (17)
وأما الخدمات الصحية فجرى تأمينها في المناطق التي ينتشر فيها الفرنسيون فيما كان لكل 10000 جزائري طبيب واحد، وتصل هذه النسبة في الأقاليم الجنوبية للجزائر إلى 30000/1، وفي مراكش 45000/1 فيما لكل 50000 شخص في غينيا طبيب واحد.
ونتيجة لذلك ارتفعت نسبة الوفيات بين الأطفال في المستعمرات عنها في البلاد المستعمِرة أو بين المستعمِرين، ففي حين يموت من أطفال الأوربيين في الجزائر ما نسبته 5.4 % يموت من أطفال الجزائر 18%، وفي تونس يموت للأوربيين من أطفالهم ما نسبته 5.9% فيما يموت للتونسيين ما نسبته 19.3% فيما تصل النسبة في بعض مناطق أفريقيا الريفية إلى 60%، وكتب الدكتور بريسو مقرر ميزانية الصحة عام 1954م في الجزائر أن من بين 120 مريضاً يراجعون عيادة السل في مستشفى مدينة الجزائر لا يلقى العناية منهم سوى 30. أما الباقون فأسلموا إلى الموت. (18)
وننبه أخيراً إلى أن كل ما سمعناه عن الاستعمار الفرنسي مما سطره لنا هنري كلود ورفاقه ينطبق تماماً على الاستعمار البريطاني والإيطالي والبرتغالي وسوى ذلك من جنسيات الاستعمار الأخرى.
التبشير
التبشير لفظة مشتقة من بشر بمعنى فرح وتهلل، ومنه البِشَارة، وهي الخبر السار الذي لايعلمه المخبَر، والبُشرى هي ما يبشَّر به أو ما يعطاه المبشَّر.
والتبشير بالمعنى الاصطلاحي يطلق على دعوة النصارى الآخرين إلى النصرانية. (19)
ويزعم النصارى أن هذا الأمر صدر لهم من المسيح حين قال : " فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس " ( متى 28/20 ) فيزعم النصارى أنه بموجب هذا الأمر كان لابد لهم أن يسيروا لتبليغ النصرانية إلى الأمم. وهكذا خرج دعاة النصرانية يكرزون الأمم، وانتشرت النصرانية في ربوع أوربا، كما انتشرت في بعض مناطق أفريقيا كالحبشة ومصر.
ولما ظهر الإسلام دخلت الأمم في دين الله أفواجاً، ودخل الإسلام إلى مهد النصرانية في بلاد الشام ثم مصر ثم آسيا الصغرى، ثم بعد حين توقف عند أبواب فرنسا.
وطوال قرون عديدة تواصلت الحروب الصليبية تروم العودة إلى البلاد المباركة، ولكن من غير فائدة أو جدوى.
وقد اتجه المبشرون إلى العالم الإسلامي خلال سنين طويلة متباعدة، وكان أرخبيل أندنوسيا هو باكورة النشاط لهم حيث وصل المبشر المشهور فرنسيسكوس اكسافيريوس في 1546م، ثم تتابع المبشرون مع وقوع البلاد تحت الاستعمار البرتغالي ثم الهولندي ثم الإنجليزي.
وقد كان الجهد المبذول في تبشير أندنوسيا عظيماً، فقد وصل عدد الكهنة الكاثوليك عام 1973م إلى130 كاهناً، ويضاف إلى ذلك 22 أبرشية، 9 هيئات للرهبان والراهبات، و33 مطرانية، فيما وصل عدد الكاثوليك إلى مليون وربع كاثوليكي. (20)
وفي القرن الثامن عشر توافدت البعثات التبشيرية على أراضي الخلافة العثمانية مستغلة ضعف الدولة العثمانية واقتسام ممتلكاتها، حيث وضعت بلاد المسلمين تحت الاستعمار بأنواعه المختلفة.
وقد تجمعت فلولهم في مالطة عام 1815م ( 1213هـ ) ووضعوا برامج للتبشير في الدول العربية استجابة لبرنامج إنجليزي اسمه " مشروع تنصير بلاد البحر الأبيض المتوسط " وأرادوا من خلال انتشارهم في الشرق الإسلامي تعويض الخسارة التي لحقت بالكنيسة في أوربا أمام موجة الحضارة الجديدة الناشئة في الغرب. (21)
ففي عام 1830 غزت فرنسا الجزائر، وقد صحب الجنرال الفرنسي بورمنت ستة عشر قسيساً، وقال لهم بعد سقوط مدينة الجزائر : " إنكم أعدتم معنا فتح الباب للنصرانية في أفريقيا، ونأمل أن تنبع قريباً الحضارة التي انطفأت%
المصادر و المراجع :
1- معهد الامارات التعليمي www.uae.ii5ii.com
2- قوقل
3- وكبيديا الموسوعة الحرة