فقد أبدع البردوني في الوصف حتى بلغ مداه و ادرك منه غايته و مناه في هذه القطعة الفريدة التي أطربتني فهاهي مذيلة بتذوق من طرف أخ أريب و لي رجاء أن ينسج على منوالها فحل ويسقطها على الذي اشتغل بطلب العلم فشغل فتجده عامر المكتبة خاوي الدار ( ابتسامة ) و لله الحمد فطلب العلم في عينه لذة و من ذاق عرف , و اترككم مع القطعة المستملحة في انتظار مشاركاتكم الشعرية و النثرية .
التذوق الجمالي في قصيدة البردوني ،،
شـكراً ، دخلتَ بلا إثارة ، وبلا طُفُورٍ ، أو غراره
لـما أغـرتَ خنقتَ في رجليكَ ضوضاءَ الإغاره
أن تبدأ الكلام بكلمة شكراً فذاك استهلال لا يحيدُ عن كونه امتنان لمعروف أو لصنيعٍ فيه ما يستحق الشكر أو …….. السخرية !
أراد الشاعر أن يصور المشهد وأن يُفصح عن نواياه في بقية القصيده ، فلقد اعتنى بتصوير المشهد التمثيلي للص وهو يسطو على مكان الشاعر بهدوء وبلاضوضاء وبلا عناء أو عنف وكل ذلك يستحق اللص أن يُشكر عليه ،
لأن باختصار ليس هناك ما يستحق عكس ذلك ،،
لما أغرتَ خنقتَ في رجليكَ ضوضاءَ الإغارة ،
ضوضاء الإغارة ،، أو ماقد يُحدثه اقتحامك للمكان من ضجيج ، هو كل ما يعني الشاعر ،
فهو لا يخاف على فضاء مكانه الخاوي من كل شيء ، وكل ما يعنيه أن تأتي – أيها اللص – وتذهب دون ضوضاء ، أو …. قلق !
لم تسلبِ الطين السكونَ ولم تُرع نوم الحجارة
كالطيفِ جئتَ بلا خطى ، وبلا صدى وبلا إشاره
هكذا بدأ بشكراً وهذا أقصى ما يمكن أن يسديه اللص لصاحب المكان ، وبعد كلمة شكراً ،
فجّر الشاعر المفردة كما يحلو له دائماً ان يفعل ، وهذه الميزة لدى البردوني – حسب رأي أحد أصدقائي – التي لم يلتفت لها الناقد في عصره فظلمه وأخره في قائمة شعراء القرن العشرين ،
فليس هناك من له القدرة على تفجير المفردة وإلقاء ظلالها كما يفعل البردوني والدليل ،، شكراً ،…
لم تسلبِ الطين السكونَ ولم تُرع نوم الحجارة
لإتمام المشهد وترسيخه في الذهن من جهة ، ومن جهة أخرى لتوظيف مفردات تصف هذا المشهد وتطفي عليه حالة الفقر كالطين والحجارة ، …
كالطيفِ جئتَ بلا خطى ، وبلا صدى وبلا إشاره
لاباسَ بشيء من الحشو ، طالما أنه سيزيد من تفاصيل المشهد التصويري خصوصاً أنه يصف حركة أكثر من وصفه للمشهد فكأن الشاعر قد فرغ من وصف البيئة ومكوناتها ،
فهي فقيرة ، مُعدمة ،، وتفرغ الآن لوصف حركة بطل القصيدة وهو اللص ، وفي ذلك دعوة للقاريء أن يعيش المشهد بكل تفاصيله وهو متحرك ، وكل ذلك عبقرية وليس حشو ،
أرايتَ هذا البيت قزماً ن لا يكلفك المهارة
فأتيته ترجو الغنائم ، وهو أعرى من مغارة ،
أعرى من مغارة ، هذه الجملة هي نهاية المشهد ووصفه المختصر أو التعليق الأنسب للصورة التي رسمها الشاعر ،
أعرى من مغارة أي أكثر عرياً وخواء من مغارة لا شيء فيها سوى الفضاء ،
ولا تخافوا فلن نطيل كثيراً فكل ما سبق من إطالة بسبب .. (شكراً)
تعال يا لص وين بتروح ؟
وقعت في يد من لا يرحم ولا يفوّت هذه الفرصة ،، ..
ماذا وجدتَ سوى الفراغ ، وهرّةٌ تَشتَمُ فارة ؟
ولصديق آخر قولٌ جميل يقول :- ربما يفسدُ الكلام الاشياء ، والبيت لا يحتاج سوى للشفقة على الشاعر أو ربما على الهرة ! ..
ولهاثُ صعلوك الحروف ، يصوغ من دمه العبارة ،
غريب كيف وضع البردوني نفسه مكان اللص ،،
فأنت يابردوني الأعمى وليس هو ، لكنها الذاتية التي وصفها طه حسين ، تفضحُ السرائر ، وتظهر العفوية والعذوبة والتلقائية في صياغة الأدب ،
وكأن اللص سيسمع اللهاث ، بينما تركيزة في الواقع سيكون أكبر على ما يراه ،، وهنا تعليل قوي جداً لإستخدامه كلمة ( وجدتَ ) بدل ( رأيتَ) في البيت …السابق ،
ماذا وجدتَ سوى الفراغ ، وهرّةٌ تَشتَمُ فارة ؟ وجدت أكثر منـزلةً وملائمةً هنا من رأيتَ ..! وجدَ لهاث وليس رأى لهاثاً ،
يُطفي التوقد باللظى ، ينسى المرارة بالمرارة
لم يبقَ في كوبِ الأسى شيئاً ،…… حساه إلى القرارة ,
ما تسوى عليه هالحرامي مسكين والله بلش فيك ،،
هنا جت للبردوني ع الطبطاب ،،
عاد للشكوى ولوصف أساه بأبلغ صورة ممكنة ،،
حتى أنه شرب كأس الاسى حتى قعره ، وأن مرارته لا تزول إلا بمرارة جديدة تنسيه الأولى ،
ماذا ، أتلقى عند صعلوك البيوتِ ، غنى الإماره
يالصُ عفواً ، إن رجعت بدون ربحٍ أو خسارة
لم تلقَ إلا خيبةً ، ونسيت صندوق السجارة
تصاعد الوصف في القصيدة كان يوحي بما هو أكثر من الشفقة على اللص ،،
كان يوحي بأن الشاعر سيذهب إلى أن اللص هو من سيشفق عليه ،، وسيترك له شيءٌ من شيء ،
ولو تصاعد الحدث لهذا لكان إبتذالٌ لا مبرر له على الإطلاق ،
وهذا ما أعجبني شخصاً ، ويشفع لي وللشاعر أنه لم ينهِ ذاك الإسترسال بشكراً جديدة ،
لكنه أشار بأن اللص قد يعطي لكنه لن يأخذ شيء من منـزل الشاعر عندما قال : ونسيت صندوق السيجارة ،
منقول لتعم الفائدة ………….