المقدمة
شرع الإسلام الزواج لتحقيق أسمى المقاصد فعندما يتعسر تحقيق هذه المقاصد لتبين أن الحياة الزوجية قد بنت على اختيار خاطئ أو بينت العشرة تفاوت في الطباع وتحول الحب إلى بغض مما يؤدي إلى حلول الخلاف والشقاق بين الزوجين فتصبح الحياة الزوجية مصدر للعناء والعذاب للزوجين, لذا شرع الله الطلاق.
العرض
تعريف الطلاق:
قال القرطبي:" الطلاق هو حل العصمة المنعقدة بين الأزواج بألفاظ مخصوصة"(10).
إذا أردنا شرح التعريف: فإن أول أمر يتبادر للذهن أن الطلاق ليس عقدا وإنما هو فسخ العقد، ومعنى هذا أنه لا يحتاج إلى مجلس يوجد فيه طرفي العقد أي المتعاقدين ، ومعنى هذا أنهما لا يُحتاج فيه إلى وجودهما في مجلس واحد عند حدوث الفسخ، ولكن المقصود أن يصل الفسخ إلى الطرف الثاني.
وطريقة الوصول كما تحددت في التعريف " بألفاظ مخصوصة"، فهل لا يقع الطلاق بغير هذه الوسيلة؟
آراء العلماء في وقوع الطلاق بغير اللفظ:
المتأخرون ناقشوا مسألة الطلاق بالكتابة إلى الغائب، كما سيأتي تفصيله، واتفقوا على وقوع الطلاق بالكتابة المعنونة باسم الزوجة والموجهة إليها شخصيا، وحكمه حكم الطلاق الصريح إذا كان اللفظ صريحا. وبظهور صور جديدة للوسيلة التي يقع بها الطلاق:
فهل يمكن أن يقع الطلاق بالفعل أو الكتابة، أو الإشارة المفهومة، أو المفهوم من القرائن وسياق الكلام؟
الوسائل التي تقوم مقام اللفظ:
– الطلاق بالفعل: الأصل أن الفعل لا يقع به طلاق، كمن يغضب من زوجته ويأخذها إلى بيت أهلها، ويبعث لها مؤخر صداقها مثلا دون أن يتلفظ بالطلاق، لا يعدّ مطلقا.
– الطلاق بالإشارة: يقع الطلاق بالإشارة، إذا انضم للإشارة من القرائن ما يؤكد على دلالتها على الطلاق في عرفه الذي يعلمه المتصلون به.
– الطلاق بالكتابة: إذا كان الطلاق يقع بكل لفظ يدل عليه إذا وضحت الدلالة، واستبان قصد إيقاع الطلاق فإن ما يقوم مقام اللفظ الصريح الكتابة المستبينة (التي تبقى صورتها بعد الانتهاء منها) إذا كانت برسم الزوجة (عنوانها).
– الطلاق بالإرسال: ومعناه أن يجعل الزوج إعلام زوجته بثبوت طلاقها لغيره، وذلك بأن يرسل إليها من يخبرها أنه طلقها. .
– الإقرار بالطلاق: وهو واقع، فإذا قال الزوج لشخص اكتب طلاق امرأتي وابعث به إليها. فإن ذلك يكون إقرارا بالطلاق فسواء كتب أو لم يكتب يقع الطلاق.
– الطلاق كتابة وإرسالا: ومثاله الطلاق عن طريق إرسال رسالة سمعية أو كتابة عن طريق الهاتف النقال، أو البريد الإلكتروني، هذه الصورة التي مازالت تثير نقاشا حاميا بين الفقهاء؛ فمنهم من قبلها بشرط أن يؤكد على واقعة الطلاق في المحكمة، ومنهم من رفضها مطلقا لما فيها من استهزاء بالميثاق الغليظ الذي ربط الزوجين.
الحكمة من تشريع الطلاق:
يمكننا استنتاج حكمة تشريع وإباحة الطلاق في التشريع الإسلامي من الآيات القرآنية، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي تضمنت النصوص المشرعة للطلاق وآدابه.
يقول الله تعالى :{وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما} النساء: 130. وقد جاءت هذه الآية بعد الآيات الداعية إلى الإصلاح عند نشوز أحد الزوجين؛ فإن الطلاق لم يشرع إلا بعد محاولات الإصلاح بين الزوجين، عند نشوب الخلافات بينهما، إذ إن " الأصل في الزواج هو استمرار الحياة الزوجية بين الزوجين" ، ولكن إذالم يكن الأمر كذلك، واستحالت الحياة بين الاثنين لكثرة الخلافات المنفرة للقلوب، فإن الطلاق هو آخر الحلول ، لذا عدّه الشارع الحكيم من أبغض الحلال، أي أنه في المرتبة الأخيرة من المباح في تقسيم الحكم التكليفي. قال صلى الله عليه وسلم:{أبغض الحلال إلى الله الطلاق} ويقول ابن قدامة في هذا المقام" فإنه ربما فسدت الحال بين الزوجين، فيصير بقاء النكاح مفسدة محضة، وضررا مجردا بإلزام الزوج النفقة والسكنى، وحبس المرأة مع سوء العشرة والخصومة الدائمة من غير فائدة، فاقتضى ذلك شرع ما يزيل النكاح لتزول المفسدة الحاصلة منه".
وقال تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} البقرة:229. وقال أيضا:{فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} الطلاق: 2. وقال أيضا:{فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا} الأحزاب: 49.
المتأمل في الآيات الكريمة يلحظ أن كلمة الطلاق في كل مرة تأتي متبوعة بأحد أوصاف المعروف والإحسان، للدلالة على أن المطلقين حتى وإن كانا متخاصمين، وبدت الحياة بينهما مستيحلة، إلا أنهما يتفارقان عن طيب خاطر.
وقال ابن عاشور في تفسي آية الطلاق بسورة البقرة:{لا جناح عليكم إن طلقتم النساء:}: "قد يعرض من تنافر الأخلاق، وتجافيها، مالا يطمع معه في تكوين هذين السببين- سببي المعاشرة وهما: السبب الجبلي، والسبب الاصطحابي- أو أحدهما، فاحتيج إلى وضع قانون للتخلص من هذه الصحبة، لئلا تنقلب سبب شقاق وعداوة"..
مما تقدم يمكننا اسنتاج الآتي:
– أن الطلاق آخر الحلول للزوجين الذين صعب اجتماعهما تحت سقف واحد، " فلا يلجأ إليه لأول وهلة ولأهون الأسباب" (20)
– أن الطلاق لا يتم إلا بطرق سلمية، أي بدون تشاجر، فهو لايقع في وقت الغضب، إنما يتم بالاتفاق.
• حكم الطلاق:
الأصل في الطلاق الإباحة، إلا أنه مثل كثير من الأحكام تعتريه الأحكام الشرعية الخمسة: الوجوب، والتحريم، والندب، والكراهة، والإباحة، ولكل حكم منها موقعه ومجاله.
– فالطلاق الواجب: هو الذي يتحقق عند التيقن أن الاستمرار في هذا الزواج سيؤدي إلى الوقوع في حرام، كالإنفاق من حرام، أو مشاركة أحد الزوجين للآخر في عمل محرم شرعا، كشرب خمر، أو عدم صلاة، أو تبرج المرأة.
– والطلاق المحرم: وهو الذي يكون من دون أي سبب، أو الذي يتيقن فيه الشخص أنه سيتجه للحرام بطلاقه زوجته، ومثله الطلاق البدعي كما سيأتي لاحقا بأنواعه؛ كالطلاق زمن الحيض.
– والطلاق المندوب: ويكون في حال كانت الزوجة سيئة الأخلاق، تصعب الحياة معها لبذاءة لسانها.
– والطلاق المكروه: مثل طلاق الزوجة مستقيمة الحال، ويكره إذا لم يكن له أي داعٍ.
– وأما الطلاق المباح: فهو فغيره من الصور المتقدمة، والتي يكون فيها السبب عادة الخلافات المستمرة.
•الطلاق بيد الرجل، وللمرأة الخلع وللقاضي التفريق والفسخ:
لما أباح العلي القدير الطلاق جعله مشروعا للرجل، فالطلاق حق للزوج، فهو الذي يوقع الطلاق إذا كانت الظروف تحتم وتلزم إيقاعه، وفي المقابل شرع الخلع حقا للمرأة المتضررة؛ فالرجل يدفع متعة المطلقة والمرأة تدفع بدل الخلع، كما شرع الفسخ وغيره من أنواع التفريق القضائي للمرأة المتضررة لأي سبب من الأسباب.
وإن آيات الطلاق أكثرها جاء الخطاب فيها موجها للزوج.
قال تعالى :{يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} الطلاق: 1.
وقال تبارك وتعالى :{ولا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} البقرة: 226. قال ابن عاشور" فالتخلص قد يكون مرغوبا لكلا الزوجين، وهذا لا إشكال فيه، وقد يكون مرغوبا لأحدهما ويمتنع منه الآخر، فلزم ترجيح أحد الجانبين: وهو جانب الزوج لأن رغبته في المرأة أشد، كيف و هو الذي سعى إليها، ورغب في الاقتران بها؛ ولأن العقل في نوعه أشد، والنظر منه في العواقب أشد، ولا أشد احتمالا لأذى، وصبرا على سوء الخلق من المرأة، فجعل الشرع التخلص من هذه الورطة بيد الزوج".
وقوله:{يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات وآتيتم إحداهن قنطارا} النساء: 20
وأما أسباب جعله بيد الرجل فهي:
-قوامة الرجل: إذ اتفقت النصوص الشرعية على جعل القوامة الأسرية بيد الرجل، " ومن لوازم هذه القوامة أن يكون الطلاق بيد الرجل أيضا"، قال تعالى:{ الرجال قوامون على النساء بما فضل بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} النساء: 34.
وقال أيضا :{ ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة} ، " وهي درجة تجعل له حقوقا، وتجعل عليه واجبات أكثر…فإن كان للرجل فضل درجة، فعليه فضل واجب".
– تحمل الرجل وصبره: تختلف الخصائص الفطرية للإنسان من الرجال للنساء؛ فإن الرجال يتصفون بقوة التحمل، والصبر عند الشدائد، والتأني وكظم الغيظ، والتريث عند الغضب. أما النساء ولأن لديهن غريزة الأمومة فإنهن اتصفن طبيعةً بالحنان والرأفة، ورهافة الحس، ورقة الشعور، والاندفاع وراء العواطف، وسرعة التأثر، وغيرها من الصفات الرقيقة.
فلهذه الخصائص والطبائع جعل الطلاق بيد الرجل لأنه سيفكر مليا وبروية في التطليق، أما المرأة فإنها وبدافع الأحاسيس الفياضة فإنها لن تتوانى عن التطليق لأتفه الأسباب وأبسطها إن لم يكن أسذجها.
– تحمل الرجل للتبعات المالية للطلاق: يعتبر جعل الطلاق بيد الرجل شيئا منطقيا لأن الزوج ومنذ الأيام الأولى للخطبة وحتى الطلاق هو المسؤول عن التبعات المالية للزواج ومن بعده الطلاق، فهو الذي يدفع المهر، وهو الذي تجب عليه النفقة على الزوجة والأولاد، وهو الذي بعد الطلاق يدفع متعة المطلقة إضافة للنفقة، والتنازل على بيت الزوجية لمطلقته طلاقا رجعيا، أو المبتوتة الحامل. فكان له حق الطلاق نظير ما سبق من التزامات مالية؛ لأن المرأة ليس لها أي التزام مادي أمام الزواج فإنها لن تتوانى عن الطلاق متى شاءت، ولأي سبب كان، " وليس هناك ما يحملها على التروي والأناة حيث لا تغرم شيئا" (24). أما الزوج ولأنه المسؤول ماديا فإنه يفكر مليا قبل إيقاع الطلاق.
ملاحظة:
وإذا كان الطلاق شرع أصالة بيد الرجل للحكم السابقة الذكر؛ فإنه عند الإضرار بالمرأة ورفض الزوج الطلاق، يمكنها اللجوء إلى الخلع كحلٍّ مقابل دفعها مقدارا معينا من المال لزوجها.
وأما الطريقة الثالثة للتفريق بين الزوجين فهي الحكم القضائي، وهو في أكثره يعتمد على الفسخ بسبب عيب من العيوب، وغيرها من الأسباب، فيكون للقاضي حق التفريق بين الزوجين، أو تطليقهما، وفي هذا دلالة على أن الإسلام لما جعل الطلاق بيد الرجل لم يبخس بحق المرأة وإنما نظر في مصلحة الزوجين وأسرتهما؛ وإن تعسف الزوج في استعمال حقه فإن أمام الزوجة خيارين اثنين؛ إما أن تخالع نفسها، أو تلجأ للقضاء.
• أنواع الطلاق:
لما شُرع الطلاق لم يشرع سيفا قاطعا وحدا فاصلا، إنما تركت فيه خيارات، وفرص للزوجين لمراجعة نفسيهما وما بدر منهما.
فالزواج عندما تبدأ فيه الخلافات والمشادات، وقبل أن يلُجأ فيه إلى الطلاق فإنه يمر بمراحل كثيرة حتى تأتي الخاتمة في الطلاق البائن، المفرق بين الزوجين تفريقا أبديا. وهذه المراحل منصوص عليها في ثلاث آيات جليلة، قال تعالى :
{والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون } البقرة: 228- 230.
وهذه المراحل تتمثل في:
– الطلاق الرجعي: وهو على مرحلتين، والمرحلة الثالثة منه تنهي عقد الزوجية. وقد اشترط أن يكون في طهر، أي في وقت لا يكون الحيض سببا منفرا بين الزوجين، وبالتالي يحدث الطلاق. وفي هذا الطلاق يمكن للزوج مراجعة زوجته بدون أي شروط إلا أن تتعدى المرأة عدتها، فهنا وجب المهر والعقد الجديدين.
– الطلاق البائن: وهو الطلاق الذي الذي يحصل بعد انتهاء الطلاقات الثلاث، وهو المسمى بالطلاق البائن بينونة كبرى، وفيه لا يستطيع الرجل مراجعة مطلقته حتى تتزوج غيره. وأما البينونة الصغرى فهي الطلاق الرجعي بعد انتهاء العدة؛ فرغم أن الطلاق رجعي إلا أن وقت الرجعة محدد بوقت العدة، فإذا انتهت العدة فلا يحق للرجل مراجعة زوجته إلا بعقد ومهر جديدين.
– الرجعة بعد الزواج الثاني: وفي حال حدوث الطلاق الثلاث، فإن الزوج يمكن أن يراجع زوجته بعد أن تكون قد تزوجت برجل آخر زواجا صحيحا .
الخاتمة
وفي الختام نرى أن الطلاق ليس بالمسألة السهلة التي يمكن حدوثها في أي وقت وفي كل الظروف فهناك شروط وأحكام وأنواع له. وفي كل الأحوال فهو أبغض الحلال عند الله فيجب اتخاذ القرار بعقل مع مراعاة شروطه. كما نرى أن الإسلام لا يظلم المرأة والدليل حقها بالخلع.
المصدر:
lahaonline.com
كتاب:المغني لأبن قدامة