أراد قومُ إبراهيم عليه السلام أن ينتقموا من إبراهيم عليه السلام لما كسّر أصنامهم وحطمها وأهانها، فلما غلبهم بحجته القوية الساطعة أرادوا مع ملكهم هذا أن ينتقموا منه فيحرقوه في نار عظيمة فيتخلصوا منهُ قال تعالى مخبرًا عن قولهم :{ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)} (سورة الصافات)، وقال :{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا ءالِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68)} (سورة الأنبياء)، فشرعوا يجمعونَ الحطب من جميعِ ما يُمكنهم من الأماكن ليلقوهُ بها وجعلوا ذلك قُربانًا لآلهتهم (على زعمهم) حتى قيل إن امرأة منهم كانت إذا مَرضت تنذر لئن عوفيت لتَحملنَّ حطَبًا لحريق إبراهيم، وهذا يدلّ على عظم الحقد المتأجج في صُدورهم ضد إبراهيم عليه السلام. ثمّ عمدوا إلى حفرة عظيمة فوضعوا فيها ذلك الحطبَ وأضرموا النار فيها فتأججت والتهبت وعلا لها شررٌ عظيمٌ لم يُر مثله، وكانوا لا يستطيعون لقوة لهبها أن يتقدموا منها، ثُمّ لما كانوا لا يستطيعون أن يُمسكوا إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأيديهم ويرموه في هذه النار العظيمةِ لشدّة وهجها، صنعوا المَنجنيق ليرموه من مكان بعيد، فأخذوا يُقيّدون إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام وهو عليه الصلاة والسلام متوكّل على الله حقّ توكله، فلمّا وضعوه عليه السلام في كفّة هذا المنجنيق مُقيّدًا مكتوفًا وألقوه منه إلى وسط النار قال "حسبنا الله ونِعم الوكيل" كما روى ذلك البخاريُّ عن ابن عباس.
فلما أُلقي إبراهيم لم تحرقه النارُ ولم تصبه بأذى ولا ثيابه، لأن النار لا تحرقُ بذاتها وطبعها وإنما الله يَخلقُ الإحراقَ فيها، قال الله :{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} (سورة الأنبياء).
فكانت هذه النار الهائلة العظيمة بَردًا وسلامًا على إبراهيم فلم تحرقه ولم تحرق ثيابه. وقيل: لم تحرق سوى وِثاقه الذي وثقوا وربطوا به إبراهيم عليه السلام. ويُروى عن بعض السلف أن جبريل عليه السلام عرض له في الهواء فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا.
ولما خبا سَعيرُ هذه النار العظيمة وانقشع دخانها وجدوا إبراهيمَ سليمًا معافى لم يصبه أيُّ أذى فتعجبوا لأمره ونجاته، ومع أنهم رأوا هذه المعجزة الباهرة ظلوا على كُفرهم وعنادهم ولم يُؤمنوا بنبي الله إبراهيم عليه السلام، لقد أرادوا أن ينتصروا لكفرهم فخُذلوا، يقولُ اللهُ تبارك وتعالى :{وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ (70)} (سورة الأنبياء)، وقال :{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ (98)} (سورة الصافات).
هجرة إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى بلاد الشام (فلسطين) ودخوله مصر واستقراره في الأرض المقدسة
أصر قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام على الكفر والضلال ولم يؤمن به إلا نفر قليل منهم، ولما لم يجد إبراهيم عليه السلام منهم إقبالاً إلى الهدى والإيمان أراد أن يهاجر إلى بلد يتمكن فيه من عبادة الله ودعوة الناس فيه إلى الإيمان والإسلام، عَلّه يجد هناك ءاذانًا صاغية وقلوبًا واعية تقبل الحق والإيمان وتُقرُّ بوحدانية الله المَلِك الديان مالك السموات والأرض.
قال تعالى حكاية عن نبيّه إبراهيم عليه السلام: {وقال إنّي ذاهب إلى ربي سيهدين} [سورة الصافات/99] وذلك حين أراد هجرة قومه بعد هذا الإصرار والعناد منهم على كفرهم وضلالهم، أي إني ذاهب إلى حيث أمرني ربي عز وجل وهو الشام، أو المعنى: إلى حيث أتمكن فيه من عبادة ربي عز وجل.
وقال تعالى في حق إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَءاتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)} [سورة العنكبوت]. وهَاجَر سيدنا إبراهيم عليه السلام مع زوجته سَارة وابن أخيه لوط إلى أرض الشام، وبعث الله تعالى سيدنا لوطًا رسولاً إلى أهل سدوم في أطراف الأردن المؤتفكة، وكانت هجرة إبراهيم عليه السلام إلى برّ الشام بأمر الله فيها بركة، ثم وهبه الله تبارك وتعالى بهجرته هذه في سبيل الله الأولاد الصالحين وجعل في ذريته النبوة والكتاب، يقول الله تبارك وتعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)} [سورة الأنبياء].
رحيل إبراهيم عليه السلام إلى مصر
يقال: إنه لما ضاقت سُبُل العيش في الشام وعَمَّ القحط رحل إبراهيم عليه السلام إلى مصر وكانت معه زوجته سارة، وكان على هذه الأرض مَلِك كافر جَبّار مُتسلطٌ، وكان قابضًا على زمام الحكم في هذه البلاد، وكان من جملة الفساد الذي عند هذا الملك الخبيث أنه كان إذا دخلت إلى بلدته وأرضه امرأةٌ جميلة يأخذونها إليه ليفعل الفاحشة بها، فلمّا دخل إبراهيم عليه السلام مع زوجته سارة إلى أرض هذا الجبار وكانت سَارَة من أحسن وأجمل النساء وكانت لا تعصي إبراهيم عليه السلام، وصِفَ حُسن وجمال سارة عليها السلام لهذا الملك الجبار الخبيث فأرسل إلى إبراهيمَ فقال له: من هذه المرأة التي معك؟ ففطن إبراهيم عليه السلام إلى مَقصده الخبيث ومأربه وخَشِي إن أخبره أنها زوجته أن يبيّتَ له الشرّ فيقتله ليتخلص منه فيستأثر بسارة من بعده، فقال له إبراهيم: أختي أي أختي في الإسلام، فظنَّ الملك الجبار أنها غير متزوجة، فطلب منه أن يحضرها إليه في قصره، وذَهَب إبراهيم عليه السلام إلى زوجته سارة وأخبرها بما جرى مع هذا الملك الجبار وقال لها: يا سارة لَيس على وجه الأرض زوجان مؤمنان غيري وغيرك وإنّ هذا سألني فأخبرتُه أنك أختي فلا تكذبيني، ودخلت سارة على هذا الملك الجبار بعد أن قامت وتوضّأت ودَعت الله تعالى أن يكفيَها شر هذا الملك الجبار، فلما رءاها هذا الملك أعجبَ بها ومدَّ يَده إليها ليتناولها بيده لكنه أُخِذ ويَبستْ يده، فقال لها: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعَت الله تبارك وتعالى فانفكت يده بعد يُبسها وعادت إلى طبيعتها، ولكنَّ هذا الخبيث طاوع نفسه الخبيثة وأمرته أن يمدَّ يدَه إلى سارة ليتناولها مرة ثانية، فلما أهوى إليها يَبست له مثلَ المرة الأولى أو أشد، فقال لها: ادعي الله لي ولا أضرّك فدعت سارة الله تعالى فأطلقَ الله يده، فلما رأى هذا الخبيثُ ما رأى رَدَّها إلى إبراهيمَ عليه السلام، ودعا بعض حَجَبته فقال لهم: إنكم لم تأتوني بإنسانٍ إنما أتيتموني بجنيّة، وَوَهب لسارة وأخدمها هاجر، فأقبلت سارة عليها السلام بهاجر إلى زوجها إبراهيمَ عليه السلام وهو قائمٌ يصلي، ثم لمّا سألها إبراهيم عما جرى معها قالت له: كَفاني الله كيدَ الكافرين وأخدَمني هاجر، وقد روى هذه القصة بنحوها البخاري في صحيحه عن أبي هريرة موقوفًا، والبزار في مسنده والإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعًا.
فائدة: رَوَى البخاريُّ أَنّ سارة زوجة إبراهيم عليه السلام تَوضأت لمّا أتى إبراهيم أرض الجبار، وهذا يدلُّ على أن الوضوءَ كان موجودًا قَبل أمةِ محمد عليه الصلاة والسلام، وفي شريعة الأنبياء السابقين.