التصنيفات
الارشيف الدراسي

تقرير / بحث / عن الخوارزمي

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..

محمود يلواج الخوارزمي شخصية مجهولة من الغالبية الساحقة لدى المثقفين المعاصرين، ولم يذكر في أعلام الزركلي، ولا حتى في ذيل الأعلام لأحمد العلوان. وليس له ذكــــر في الموسوعة العربية العالميـــة، ومع هـــــــذا فقد أنقذ الله بهذه الشخصية الفذة ملايين المسلمين من أن يفتك بهــــم الحكم المغولي (التتاري).
وقبل أن نلقي الضوء على هذه الشخصية التاريخية الفذة علينا أن نلقي الضوء، على أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ، كما تقول الموسوعة العربية العالمية، والتي امتدت من الصين شرقاً حتى بولندا غرباً، ومن ســهول سيبيريا شمالاً إلى الهند جنوباً.

لقد أسس جنكيز خان (1162-1227م) هذه الإمبراطورية الضخمة من قبائل المغول، وقبائل القرغيز، كما كان يسميها المؤرخون المسلمون، ونظم توميجين (وهو الاسم الأصلي لجنكيز خان) هذه القبائل القوية والشرسة تنظيماً عسكرياً فذاً، وانطلق من كاراكوم (قرة قوم)، واحتل أجزاءً واسعةً من الصين، ثم انطلق غرباً وجنوباً فدمر الدولة الخوارزمية الباذخة التي كانت تحكم أراضي آسيا الوسطى (أوزبكستان وقازاخستان وقرغيزيا وتركمانستان) وامتدت إلى أفغانستان وأجزاءً واسعة من إيران، ولكن هذه الدولة الباذخة أنهكتها الخلافات الداخلية والترف، ولم تتصور قوة جنكيز خان، واستهانت به، فدمرها تدميراً، وأصبحت خوارزم وبخارى وسمرقند وما بينهما خراباً ودماراً.

أبناء جنكيز خان

وكان لجنكيز خان أربعة من الأبناء هم: جوجي وهو الابن الأكبر، وجغتاي، وأواكداي، وتولوي،فأما جوجي فقد أظهر منذ شبابه الباكر انتقاداً لدموية والده، وقد نقل المؤرخ الروسي الشهير بارتولد عن الجوزجاني أن جوجي قال لخاصته وحاشيته "إن والده القاآن الأعظم جنكيز خان قد فقد عقله كي يقتل مثل هذا الخلق ويخرب مثل هذا العدد من البلاد". وقد نما هذا الخبر إلى جغتاي الابن الثاني لجنكيز خان ما قاله أخوه، فأسرع بنقل الخبر إلى والده الذي أمر بسم جوجي سراً.

وتتحدث الروايات أن جوجي كان فيما بين الثلاثين والأربعين حين سمه والده، ولم يلبث جنكيز خان إلا بضعة أشهر بعد وفاة جوجي، ومات جنكيز خان في أغسطس سنة 1227م (625هـ) بعد أن ترك لأولاده إمبراطورية مترامية الأطراف.

وتولى أوكداي منصب الخان الأعظم ومركز حكمه بلاد المغول والصين، ويعتبر -اسمياً -رئيساً لإخوته الذين تولوا بقية أرجاء الإمبراطورية، وكان أوكداي أقل دموية من والده بكثير ونقل عنه المؤرخون أنه قال: "إن مليكنا جنكيز خان قد أقام أسس بيتنا بجهد جبار، أما نحن الآن فمهمتنا تحقيق السلام والرفاهية". وكان أوكداي يحتاج إلى الأكفاء فولى محمود يلواج أمر بلاد ماوراء النهر (التركستان) بعد أن ضبط له أمر الإدارة في الصين، فأقام محمود يلواج في خوقند، وبتوليه الوزارة رفع الاضطهاد عن المسلمين، وأعاد بناء بخارى وسمرقند وكركانج وخوارزم، وأصبحت بعد عشر سنوات فقط من دمارها مدناً عامرة مرة أخرى، كما يقول المؤرخ الروسي الشهير بارتولد في كتابه الضخم التركستان.

الخوارزمي العادل

وقد وصف ابن الفوطي في كتابه "مجمع الآداب" محمود يلواج بما يلي: "فخر الدين أبو القاسم محمود بن محمد، يُعرف بيلواج الخوارزمي وزير الخاقان (الخاقان هوالرئيس الأعلى لدولة المغول وهو أوكداي ابن جنكيز خان)، من أعيان دولة جنكيز خان (أي الإمبراطورية التي أسسها جنكيز خان، ولم يتول محمود يلواج أي منصب في زمن جنكيز خان)، والعظماء والوزراء في هذا الزمان، وعليه مدار الملك في المشرق، وإليه تدبير ممالك تركستان وبلاد الخطل وماوراء النهر وخوارزم، وكان مع هذا الحــــكم والدهاء كاتباً سديداً يكتب بالمغوليــــة والإيغــورية والتركية والفارسية، ويتكلم بالخطائية والهنـــــدية والعربيــة، وكان في غاية الفهم والذكاء والمعرفة".

ووصفه جمال قرشي المؤرخ بأنه "أعدل وزراء الخواقين، ضابط الممالك وحارس أهل الإسلام من المهالك، ويقول عنه :"عُمرت البلاد بيده وانتعشت البلاد بعدله".

وقد أثنى المؤرخون المسلمون ومنهم الجويني على محمود يلواج وابنه مسعود الذي تولى بعده الوزارة وكيف استردت البلاد في عهدهما رخاءها السابق، وبلغت بخارى بعد خرابها شأواً بعيداً من الرقي والحضارة.
وقد كان لمحمود يلواج فضل كبير في تجنيب المسلمين كثيراً من المهالك والمجازر التي كان يهم بها جغتاي ابن جنكيزخان، والذي كان يحقد على المسلمين حقداً شديداً، وقد سنحت الفرصة لجغتاي لإقامة المذابح للمسلمين عندما ثار أهل بخارى ومن حولها بقيادة شخص صوفي يدعى تارابي الذي رأى من الواجب طرد المغول من بخارى، وعندما قُتل في المعركة انهزم أنصاره، وأراد المغول بقيادة جغتاي إبادة المسلمين وتخريب بخارى مرة أخرى إلا أن محمود يلواج استطاع أن يوقف جغتاي باصدار أمر من القاآن الأعظم أوكداي بالعفو عن أهل بخارى ودخولهم في طاعته مرة أخرى.

وقد استطاع محمود يلواج أن يتقرب إلى أسرة جوجي بن جنكيز خان أيضاً واستطاع أن يقنع أرملة جوجي بأن يتولى المسلمون تربية ابنها الأصغر الذي تسمى باسم بركة خان، ويقول الجوزجاني المؤرخ إن جوجي نفسه قبل وفاته عهد بتربية ابنه الأصغر إلى المسلمين، وتولى تربيته أحد العلماء الأتقياء في خجند ( أوزبكستان اليوم)، وقد قرأ بركة خان القرآن وتعلم تعاليم الإسلام منذ كان صبياً في العاشرة من عمره، ولذا أصبح بركةً على المسلمين عندما تولى الحكم في الأورد (القبيلة) الذهبي (وهي إحدى أهم قبائل المغول) بعد وفاة أخيه الأكبر باتو الذي كان أيضاً متعاطفاً مع المسلمين إلى حد ما، وقد استمر حكم بركة خان من عام (654-665هـ) (1256-1267م) وانتشر الإسلام في القبيلة الذهبية في عهده انتشاراً واسعاً، ولم يسمح لأحد بأن يأكل الخنزير في معسكره، وتحول أغلب جنوده وضباطه إلى الإسلام، امتد سلطان القبيلة الذهبية إلى روسيا وحوض نهر الفولجا الذي أصبح نهراً إسلامياً في عهد خلفائه، وحكم خلفاؤه موسكو وبولندا وأقاموا مدينة قازان المشهورة، ثم أقاموا مدينة استراخان (الحاج طرخان) شمال بحر قزوين على نهر الفولجا، وكانت حاضرتهم مدينة الســـــــرا أيضاً على ضفاف نهر الفولجا، ولم يكن أميـــــر موســـكو يتصرف إلا بعد أن يأذن سلطان قازان، واستمر ذلك مائتي عام كاملات.

سياسة حكيمة ممتدة

وفي عهد محمود يلواج شيدت كثير من المعاهد والمدارس العلمية، وقد قام ابنه مسعود من بعده بنفس سياسة والده الحكيمة، وقد أشاد المؤرخون بمدرسة مسعود ببخارى، والمدرسة الخانية التي شيدت على نفقة أرملة تولوي الملكة سور ققتني بيكي، وقد استغرب المؤرخ الروسي الشهير بارتولد من نفوذ مسعود بن محمود يلواج على الملكة سور بيكي مما جعلها تنفق نفقة ضخمة على مدرسة إسلامية، بينما كانت هي نفسها نصرانية، وقد أقام مسعود مثل والده العديد من المدارس في أرجاء البلاد منها المدرسة المسعودية بكشغر (وهي الآن في التركستان الشرقية والمعروفة باسم سينكيانغ)، وتولى الشاعر الفقيه الصوفي سيف الدين باخرزي أمر هذه المدرسة كما تولى من قبل مدرسة كبيرة في بخارى.

وهكذا نجد مثالاً رائعاً في شخصية محمود يلواج الخوارزمي وابنه مسعود في كيفية حماية المسلمين من بطش المغول وإعادة إعمار البلاد بعد خرابها وإقامة المعاهد والمدارس الإسلامية، بل ونشر الإسلام بين صفوف المغول وقادتهم مستعيذين بالله ثم بالعلماء العاملين في نشر الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وكان للمرأة المسلمة في هذه العملية دور بارز ومشرف، فقد دخل النساءإلى قصور المغول وأقنعن الأميرات بميزات الإسلام فتحول من تحول منهن إلى الإسلام، وتم تحييد الأخريات، بل تم إيجاد التعاطف من هؤلاء الأميرات، كما أوضحنا في قصة الملكة سور ققتني بيكي أرملة الخان تولوي ابن جنكيز خان التي شيدت المدارس الإسلامية على نفقتها رغم أنها لم تكن مسلمة.

إننا محتاجون في هذا الزمن وهذا الظرف التاريخي إلى حكمة محمود يلواج وابنه مســـعود ومجمــوعة الدعاة الذين اســــتطاعوا بفضل الله رجالاً ونســــاءً من تحويل كثير من أمراء المغول وقوادهم وعامة شعبهم إلى الإسلام.

وهكذا تحول المغول إلى قوة للإسلام (على ما كان من جهل كثير منهم وبطشهم) بدلاً من أن يكونوا أداة لتدميره وتدمير أراضي المسلمين كما فعل جنكيز خان وهولاكو .

إننا الآن نحتاج إلى حكمة وصبر واستمرار في التعريف بالإسلام بكل صوره وأشكاله، والالتجاء إلى الله حتى يكشف الله الغمة ويرفع شأن هذه الأمة

م/ن

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هناسبحان الله و بحمده

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.