مسألة: تتعرّض البيئة ـ جواً أو بحراً أو بـرّاً ـ إلى الأمطار الحمضية(37) من أكسيد الكبريت وأكسيد النيتروجين الـتي تنطلق إلى الهواء الجوي نتيجة لاحتراق الوقود مثـل النفط والفحـم فـي محطات إنتاج الطاقة الكهربائية ومحركات الآلات وأفـران المصانع. كما إن هذه الغازات تنتج من مصانع إنتـاج الأمونيـا ومصانـع الأسمـدة ومعامـل تكرير البترول والصناعات البتروكيماوية وغيرها(38).
وقد كان الاعتقاد السائد أنّ الأمطار الحمضية تنشأ نتيجة بعض العوامل الطبيعية التي لا دخل للإنسان فيها مثـل الغازات الحمضية الناجمة عن اندفاع البراكين أو من حرائق الغابات أو مـن تحلل بقايا النباتات والحيوانات، لكن العلم الحديث كشف بطلان ذلك وبيّن أنّ السبب هو الإنسان، وقد أثبتت بعض الدراسات أن 90% من الكبريت المحمول في الأمطار يعود إلى النشاط البشري.
وقد لاحظ أحد علماء السويـد أنّ الأمطار التي تتساقط فوق بعض مناطق السويد تزيد نسبة حموضتهـا مع الزمن، وقد بيّن هذا العالِم أنّ هذه الأمطار تنتـج مـن ذوبان الغازات الكبريتية والنيتروجينيّة التي تتصاعد من مداخن المصانع في بخار الماء الموجود في الغلاف الجوي. ونَبَّهَ هذا العالِم إلى أخطار هذه الأمطار الحمضية وإلـى آثارها المدمّرة على مختلف عناصر البيئة الطبيعية المتوازنة.
وقد قام أحد مراكز البحوث العلمية الأوربية بدراسة (153) بُحيرة صغيرة كانت مليئة بالأسماك سابقاً، فوجدوها عبارة عن أجسام مائية ميّتة لا حياة فيها باستثناء بُحيرتين يبدو أنهما ستلحقان ببقية البُحيرات.
وقام معهد علمي آخر بإجراء دراسة مماثلة على (151) ظاهرة أخرى فوجد أنها خالية تماماً مـن الحياة، بينما لم تكن هناك مصانع تلقي بفضلاتها السّامّة في هذه الأنهار والبُحيرات، وإنما قالوا إن التلوث هو المسؤول الوحيد عن هذه الجريمة التي طالت الملايين من الأسماك.
واكتشف العلماء أن القاتل قد أتى من مكان بعيد والقاتل بالطبع هو التلوث الذي ورد من أوربا مـن الأمطار المحمّلة بحمض الكبريتيك(39)، وينتج هذا الحمض كما أشرنا في الأمطار نتيجة دخان المصانع ومحطات إنتاج الطاقة الكهربائية، ونتيجة حرق الفحـم والبترول بكميـات كبـيرة، فينتج عن احتراقهما ثاني أكسيد الكبريت(40) الذي يتصاعد فـي الجو ثم يتفاعل مع بخار الماء المكوّن للسحب مكوناً حمض الكبريتيك، ومـن ثم ينـزل ماء المطر من السماء، ويتصف بخاصية الحموضة، فيتلف كل ما يصادفه مسبباً هلاك هذه الأسماك بل والحيوانات التي توجد فـي تلك الأصقاع وهكـذا بالنسبة إلى النباتات.
وتشترك أكاسيد النتروجين(41) مع أكاسيد الكبريت في تكون الأمطار الحمضية، وتنشأ الأولى من إحراق الوقود في محطات توليد الطاقة الكهربائية والمنشآت الصناعية وفي مكائن الاحتراق الداخلية، ويبقى هذا الحمض معلقاً بالهواء الساخن وينـزل مع مياه الأمطار.
ويطلق العلماء على كل هذه الصور بالترسّب الحمضي، وهذا الترسّب الحمضي يكون أشدّ ما يكون بالقرب مـن مصدر التلوث، إي في دائرة لم تتعد (300 كيلومتراً)، والترسّب في هذه الدائرة، يكون بشكل جسيمات جافة. أمّا الترسّب الرطب في صورة أمطـار يكون عادة بعيداً عن مصدر التلوث، أي فيما يزيد على (2017) كيلومتر وأكثر، ولا يؤدي تكوين حمض الكبريتيك والنتريك في الهواء إلى نشوء الأمطار الحمضية فحسب، بل يتسبب أيضاً في تكوين الضباب الحمضـي والجليـد الحمضي بالإضافة إلى تساقط هذين الحمضيّن بصورة جسيمات جافة وغازات تسبب تلويث النبات والحيوان في البرّ والبحر.
ووضع العلماء معدلاً ثابتاً لذلك، فاعتبروا الماء النقي هو الذي يحتوي على معدل هيدروجين بنسبة (7) فإذا زاد ذلك فأصبح (8 أو 9) أصبح الماء قلوياً، وأما إذا قلّ عن (7) فاصبـح (6 أو 5) أو أقل من ذلك كان المحلول حمضياً.
وقد أشار تقرير إلى أنّ جانباً كبيراً مـن أوربا الوسطى مبتلى بأمطار حمضية بمقياس (4.2) من العشرة أو أقل من ذلك، وكذلك يشير التقرير إلى أن المقياس السنوي للمعدّل الهيدروجيني بالمناطق الملوثة في الدول الاسكندنافية واليابان وأوربا الوسطى وشرق أمريكا الشمالية يتراوح ما بين (3.5 ـ 5,5) مع ما يحتوي من الكبريتات في الأمطار يتراوح ما بين ملي غرام واحد واثني عشر ملي غراماً في اللتر، في حين يصل تركيـز النترات فيها إلى ما بين ملي غرام وستة ملي غرامات فـي اللتر. وحـين تتساقط مياه المطر الملوثة على المسطحات المائية كالمحيطات والأنهار والبحار والبحيرات فإنها تؤدي إلى إصابة الكائنات البحرية بأضرار جسميـة، وربما أدت إلى هلاك الأسماك والدلافين وباقي الأحياء التي تعيش في الماء، وإذا لـم يسبب تلوث اللحوم هلاك البشر شيئاً فشيئاً، فإنه حتماً سيؤدي به إلى أمراض مستعصية.
كما وتسببت الأمطار الحمضية فـي زيادة حموضة كثير من البحيرات والأنهار مما يؤدي إلى خلو هذه البحيرات والأنهار مـن الكائنات الدقيقة، وهناك نحو ألف بحيرة في كندا تحولت مياهها إلى حمضية بعد أن كانت معتدلة نتيجة هذه الأمطار: وحين تسقط الأمطار الحمضية على الأراضي الجيرية، فإنها ستذيب قدراً كبيراً من عنصر الكالسيوم الموجود في التربة وتحمله معها نحو المياه، ويؤدي ذلك إلى انجراف التربة وزيادة في تركيز الكالسيوم وضعف النباتات. كما وإنها إذا سقطت على بعض الأراضي أدت إلـى تفتت بعض الصخور.
وتؤدي الأمطار الحمضية إلى إذابة نسبة كبيرة من بعض الفلزات الثقيلة مثل الرصاص والزئبق والألمنيوم، وهي فلزات سامة وتسبب تسمّم الكائنات الحيّة عند شربها للمياه الملوثة. كما وإنها تتصف بخاصية التراكم إذ أنها تتجمّع بمرور الزمن فـي أجسام الأحياء، وقد قلَّت أعداد الطيور في بعض المناطق الأوربية والأمريكية بعـد أن قتل كثير منها نتيجة غذائها على الحشرات التي تحتوي أجسامها على نسبة عالية من الألمنيوم التي جرفته مياه الأمطار الحمضية من سطح التربة وحملته إلى الماء، وهذه الأضرار للأمطار الحمضية لا تختص بالمياه بل تمتد إلى المحاصيل الزراعية(42) والغابات.
ويتوقف تأثير الأمطار الحمضية علـى عدد مـن العوامل مثل كمية الأمطار المتساقطة والفترة الزمنية التي يستغرقها طول المطر الحمضي ومستوى حموضة الأمطار والتركيب الكيماوي للتُربة والنباتات والمياه الطبيعية، ومدى تأثر النباتات والحيوانـات والمنشآت بحموضـة الأمطار وحرارة الجو ووجود ملوثات أخرى في الهواء وإلى ما أشبه ذلك.
كما إنّ الأمطار الحمضية تؤثر على المباني والمنشآت الأثريّة والتاريخية والمنشآت المعدنية والمبانـي الحديثة، كما أنها تؤثر على مياه الشرب، فقد لوحظ أن مياه أحد الخزانات قد زادت حموضتها نتيجة تزايد سقوط الأمطار في الخزان مدة طويلة من العام، وقد تسببت المياه الحمضية في تآكل الخزان.
ثم أنه يمكن حل مشكلـة المطـر الحمضي بمنع تكوين مثل هذا المطر لأسباب مختلفة مثل أفران ومواقد جديدة يمكـن أن يوقف انطلاق كـــل من أكاسيد الكبريت وأكاسيد النيتروجين عن طريق استخدام أنظمة الحقن لحجر الكلس في المواقد والأفران التي يستخدم فيها الوقود الأحفوري أو شبه ذلك.
وتدل التجارب الرائدة التي أجريت في مراكز الأبحاث العلمية الأوربية على إن هذه الأفران يمكـن أن تنـزع (80% ) من ثاني أكسيد الكبريت، كما يمكن إزالة الكبريت بعـد الاحتراق وقبل أن تنفذ الغازات عبر المداخن، ويتم ذلك عن طريق غسل الغازات الكبريتية بنحو قلوي حيث يحوّل غاز ثاني أكسيد الكبريت إلى فضلات كالوحل والرواسب الطينية، ويمكن باستخدام هذه التقنية في إزالة نحو (95%) من الكبريت الموجود ضمن غازات المداخن.
كما يمكن استخدام وقود لكمية منخفضة من الكبريت فإنه في العادة تحتوي أنواع الوقـود المستعملة لإنتاج الطاقة على قدر صغير من الكبريت، ونظراً لاستعمال ملايين الأطنان من هذا الوقود كل عام في الدول الصناعية الكبيرة، إذ قدَّرت كمية غاز ثانـي أكسيـد الكربون التي تطلقها المناطق الصناعية في أوربا في الهواء بنحو (50 مليون) طن كـل عام في حين تقدّر هذه الكمية في أجواء الولايات المتحدة الأمريكية بنحو (40 مليون) طن (43).
كما يمكن لمحطات تكرير البتـرول الحديثـة أن تنتج بترولاً فيه نسبة منخفضة من الكبريت، أو تنظيف معظم أنواع الفحم الحجري الموجود فيه، وذلك عن طريق استخدام السحق وذلك عن طريق العمليات الكيماوية.
وبعد اتحاد الألمانيتين (الشرقية والغربية) ارتفع هذا الضرر حيث كانت ألمانيا الشرقية أكثر مصدر للأمطار الحمضية للسويد.
ويمكن اتّباع بعض الطرق لتقليل أخطـار الأمطار الحمضية مثل طلاء المنشآت والمباني والآثار بأنواع مستحدثة من الطلاء لحمايتها من الآثار الضارة لسقوط الأمطار الحمضية عليها، ومثل استخـدام الجير فــي معالجة البحيرات التي تتعرض للأمطار الحمضية، حيث يتسبب الجير في معالجة حموضة المياه، ويتم ذلك عن طريق رشّ رذاذ من الجير علـى سطح الماء من زوارق خاصة تطوف بكل أرجاء البحيرة لغرض معالجة مياهها. وتعتبر هذه الطريقة محاكاة لما يقوم به المزارعون عندما ينثرون مسحوق الجير على سطح التربة الحمضية قبل ريّها لمعادلة حموضتها، وهذه الطريقة لا تعد أسلوباً مثالياً لحل مشكلة زيادة حموضة البحيرات لأنها تتطلب مزيداً من الجهد والمال، كما أنها تحتاج إلى عناية كبيرة ودقة فائقة فـي استخدام الجير حتى لا تنقلب الحالة في تحول مياه البحيرات في حالة الحموضة إلى الحالة القلوية. وهذا العلاج يعدّ في نفس الوقت هو علاج للضباب الحمضي.
وقد تبين من الدراسات العلمية التي أجريت على الضباب الحمضي أنه أكثر خطورة وأشد ضراوة من المطر الحمضي بالرغم من أنهما يتكونان بطريقة واحدة، فيعـود ذلك إلى أن الضباب الحمضي يتكون ويتكثّف بالقرب من سطح الأرض، وبذلك تصبـح الفرصة مهيأة لإحداث أضرار بالغة باللذين يستنشقونه(44)، ولا يقتصر تأثير الضبـاب الحمضي على الإنسان فحسب بل يمتد ليشمل النباتات والحيوانات والمباني الأثرية.
ولذا فاللازم علاج الأمر بنحوين: الأول: منع تكون مثل هذا الضباب أو مثل ذلك المطر على ما ذكرناه.
الثاني: امتصاص الأضـرار بالقدر الممكن، وما يذكر في حالة المرض يذكر في هذه الحالة أيضاً، فاللازم الوقاية أوّلاً ثم العلاج ثانياً، ومن المعلوم أنّ: (قيراط من الوقاية خير من قنطار من العلاج).