* الفتوحات في عهد أبي الصديق رضي الله عنه:
* فتح الأبله ( فرج الهند ) وتسمى المعركة ذات السلاسل:
كانت الأبله تسمى فرج أهل السند والهند، وهي أعظم فروج فارس بأساً وأشدها شوكة، وكان صاحبها يحارب العرب في البر ويحارب الهند في البحر، وهو هرمز، فكتب إليه خالد، فبعث هرمز بكتاب خالد إلى شيرى ابن كسرى، وأردشير بن شيرى، وجمع هرمز، وهو نائب كسرى جموعاً كثيرة وسار بهم إلى كاظمة، وعلى مجنبتيه قباذ، وأنو شجان وهما من بيت الملك، وقد تقرن الجيش في السلاسل لئلا يفروا، وكان هرمز هذا من أخبث الناس طوية وأشدهم كفرا، وكان شريفاً في الفرس، وكان الرجل كلما ازداد شرفاً زاد في حليته، فكانت قلنسوة هرمز بمائة ألف، وقدم خالد بمن معه من الجيش وهم ثمانية عشر ألفاً فنزل تجاههم على غير ماء فشكى أصحابه ذلك، فقال: جالدوهم حتى تجلوهم عن الماء، فإن الله جاعل الماء لأصبر الطائفتين، فلما استقر بالمسلمين المنزل وهم ركبان على خيولهم، بعث الله سحابة فأمطرتهم حتى صار لهم غدران من ماء فقوي المسلمون بذلك، وفرحوا فرحاً شديداً، فلما تواجه الصفان وتقاتل الفريقان، ترجل هرمز ودعا إلى النزال، فترجل خالد وتقدم إلى هرمز، فاختلفا ضربتين واحتضنه خالد، وجاءت حامية هرمز فما شغلته عن قتله، وحمل القعقاع بن عمرو على حامية هرمز فأناموهم، وانهزم أهل فارس وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل واستحوذ المسلمون وخالد على أمتعتهم وسلاحهم فبلغ وقر ألف بعير، وسميت هذه الغزوة ذات السلاسل لكثرة من تسلسل بها من فرسان فارس.
* وقعـة المــذار ( الثني ):
ثم كانت وقعة المذار في صفر من السنة الثانية عشرة، ويقال لها: وقعة الثني، وهو النهر، قال ابن جرير: ويومئذ قال الناس: صفر الأصفار، فيه يقتل كل جبار، على مجمع الأنهار، وكان سببها أن هرمزاً كان قد كتب إلى أردشير وشيرى، بقدوم خالد نحوه من اليمامة، فبعث إليه كسرى بمدد مع أمير يقال له: قارن ابن قريانس، فلم يصل إلى هرمز حتى كان من أمره مع خالد ما تقدم وفرار الفرس، فتلقاهم قارن، فالتفوا عليه فتذامروا واتفقوا على العود إلى خالد، فساروا إلى موضع يقال له: المذار، وعلى مجنبتي قارن، قباذ وأنو شجان، فلما انتهى الخبر إلى خالد، قسم ما كان معه من أربعة أخماس غنيمة يوم ذات السلاسل وأرسل إلى الصديق بخبره مع الوليد بن عقبة.
وسار خالد بمن معه من الجيوش حتى نزل على المذار، وهو على تعبئة، فاقتتلوا قتال حنق وحفيظة، وخرج قارن يدعو إلى البراز فبرز إليه خالد وابتدره الشجعان من الأمراء، فقتل معقل بن الأعشى ابن النباش قارناً وقتل عدي بن حاتم قباذا، وقتل عاصم أنو شجان، وفرت الفرس وركبهم المسلمون في ظهورهم فقتلوا منهم يومئذ ثلاثين ألفاً وغرق كثير منهم في الأنهار والمياه.
* معركـة الولجـة:
كان أمر الولجة في صفر أيضاً من السنة الثانية عشرة، فيما ذكره ابن جرير وذلك لأنه لما انتهى الخبر بما كان بالمذار من قبل قارن وأصحابه إلى أردشير وهو ملك الفرس يومئذ، بعث أميراً شجاعاً يقال له الأندر زغر، وكان من أبناء السواد ولد بالمدائن ونشأ بها، وأمده بجيش آخر مع أمير يقال له بهمن جاذويه، فساروا حتى بلغوا مكاناً يقال له: الولجة، فسمع بهم خالد فسار بمن معه من الجنود ووصى من استخلفه هناك بالحذر وقلة الغفلة، فنازل أندر زغر ومن تأشب معه، واجتمع عنده بالولجة، فاقتتلوا قتالاً شديداً هو أشد مما قبله، حتى ظن الفريقان أن الصبر قد فرغ، واستبطأ كمينه الذي كان قد أرصدهم وراءه في موضعين.
فما كان إلا يسيراً حتى خرج الكمينان من هاهنا ومن هاهنا، ففرت صفوف الأعاجم فأخذهم خالد من أمامهم والكمينان من روائهم، فلم يعرف رجل منهم مقتل صاحبه، وهرب الأندر زغر من الواقعة فمات عطشاً، وقام خالد في الناس خطيباً، فرغبهم في بلاد الأعاجم وزهدهم في بلاد العرب وقال: ألا ترون ما هاهنا من الأطعمات؟ وبالله لو لم يلزمنا الجهاد في سبيل الله والدعاء إلى الإسلام ولم يكن إلا المعاش لكان الرأي أن نقاتل على هذا الريف حتى نكن أولى به، ونولي الجوع والإقلال من تولاه ممن اثاقل عما أنتم عليه، ثم خمس الغنيمة، وقسم أربعة أخماسها بين الغانمين، وبعث الخمس إلى الصديق، وأسر من أسر من ذرارى المقاتلة، وأقر الفلاحين بالجزية.
* وقعـة أليـس:
كانت وقعة أليس في صفر سنة اثنتي عشرة، وذلك أن خالداً كان قد قتل يوم الولجة طائفة من بكر بن وائل من نصارى العرب ممن كان مع الفرس، فاجتمع عشائرهم وأشدهم حنقاً عبد الأسود العجلي، وكان قد قتل له ابن بالأمس، فكاتبوا الأعاجم فأرسل إليهم اردشير جيشاً فاجتمعوا بمكان يقال له: أليس، فبينما هم قد نصبوا لهم سماطاً فيه طعام يريدون أكله، إذ فاجأهم خالد بجيشه، فلما رأوه أشار من أشار منهم بأكل الطعام وعدم الاعتناء بخالد، وقال أمير كسرى: بل ننهض إليه، فلم يسمعوا منه.
فلما نزل خالد تقدم بين يدي جيشه ونادى بأعلى صوته لشجعان من هنالك من الأعراب، أين فلان، أين فلان؟ فكلهم تلكأوا عنه إلا رجلاً يقال له مالك ابن قيس، من بني جذرة، فإنه برز إليه، فقال له خالد: يا ابن الخبيثة ما جراك علي من بينهم وليس فيك وفاء؟ فضربه فقتله، ونفرت الأعاجم عن الطعام وقاموا إلى السلاح فاقتتلوا قتالاً شديداً جداً، والمشركون يرقبون قدوم بهمن جاذويه مدداً من جهة الملك إليهم، فهم في قوة وشدة وكلب في القتال، وصبر المسلمون صبراً بليغاً، وقال خالد: اللهم لك علي أن منحتنا أكتافهم أن لا أستبقى منهم أحداً أقدر عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم، ثم إن الله عز وجل منح المسلمون أكتافهم فنادى منادي خالد: الأسر، الأسر، لا تقتلوا إلا من امتنع من الأسر، فأقبلت الخيول بهم أفواجاً يساقون سوقاً.
* فتح خالد للأنبــار:
ركب خالد جيوشه فسار حتى انتهى إلى الأنبار، وعليها رجل من أعقل الفرس وأسودهم في أنفسهم، يقال له شيرزاذ، فأحاط بها خالد وعليها خندق وحوله أعراب من قومهم على دينهم، واجتمع معه أهل أرضهم، فمانعوا خالداً أن يصل الخندق، فضرب معهم رأسا، ولما تواجه الفريقان أمر خالد أصحابه فرشقوهم بالنبال حتى فقأوا منهم ألف عين، فتصايح الناس: ذهبت عيون أهل الأنبار، وسميت هذه الغزوة ذات العيون، فراسل شيرزاذ خالداً في الصلح، فاشترط خالد أموراً تمنع شرزاذ من قبولها، فتقدم خالد إلى الخندق فاستدعى برذايا الأموال من الإبل فذبحها حتى ردم الخندق بها وجاز هو وأصحابه فوقها.
فلما رأى شيرزاذ ذلك أجاب إلى الصلح على الشروط التي اشترطها خالد، وسأله أن يرده إلى مأمنه فوفى له خالد بذلك، وخرج شيرزاذ من الأنبار وتسلمها خالد فنزلها واطمأن بها، وتعلم الصحابة ممن كان بها من العرب الكتابة العربية، وكان أولئك العرب قد تعلموها من قبلهم وهم بنو إياد، كانوا بها في زمان بختنصر حين أباح العراق للعرب.
* وقعة عين التمــر:
لما استقل خالد بالأنبار، استناب عليها الزبرقان بن بدر، وقصد عين التمر، وبها يومئذ مهران بن بهرام جوبين، في جمع عظيم من العرب، وحولهم من الأعراب طوائف من النمر، وتغلب، وإياد، ومن لافهم، وعليهم " عقة بن أبي عقة"، فلما دنا خالد، قال عقة لمهران: إن العرب أعلم بقتال العرب، فدعنا وخالداً، فقال له: دونكم وإياهم، وإن احتجتم إلينا أعناكم، فلامت العجم أميرهم على هذا، فقال: دعوهم فإن غلبوا خالداً فهو لكم، وإن غلبوا قاتلنا خالداً وقد ضعفوا ونحن أقوياء، فاعرفوا له بفضل الرأي عليهم، وسار خالد، وتلقاه عقة، فلما تواجهوا قال خالد لمجنبتيه: احفظوا مكانكم فإني حامل، وأمر حماته أن يكونوا من روائه، وحمل على عقة وهو يسوي الصفوف فاحتضنه وأسره، وانهزم جيش عقة من غير قتال، فأكثروا فيهم الأسر، وقصد خالد حصن عين التمر.
فلما بلغ مهران هزيمة عقة وجيشه، نزل من الحصن وهرب وتركه، ورجعت فلال نصارى الأعراب إلى الحصن، فوجدوه مفتوحاً فدخلوه واحتموا به، فجاء خالد، وأحاط بهم وحاصرهم أشد الحصار، فلما رأوا ذلك سألوه الصلح فأبى إلا أن ينزلوا على حكم خالد، فنزلوا على حكمه، فجعلوا في السلاسل وتسلم الحصن، ثم أمر فضربت عنق عقة، ومن كان أسر معه، والذين نزلوا على حكمه أيضاً أجمعين، وغنم جميع ما في ذلك الحصن، ووجد في الكنسية التي به أربعين غلاماً يتعلمون الإنجيل وعليهم باب مغلق، فكسره خالد، وفرقهم في الأمراء وأهل الغناء، وكان منهم حمران صار إلى عثمان بن عفان من الخمس، ومنهم سيرين والد محمد بن سيرين، أخذه أنس بن مالك، وجماعة آخرون من الموالى المشاهير أراد الله بهم خيراً.
* وقعة الثني والزميل:
ثم كانت وقعة الثني والزميل، وقد بيتوهم، فقتلوا من كان هنالك من الأعراب، والأعاجم، فلم يفلت منهم أحد ولا أنبعث بخبر، ثم بعث خالد بالخمس من الأموال والسبي إلى الصديق، وقد اشترى علي بن أبي طالب من هذا السبي جارية من العرب وهي أبنه ربيعة بن بجير التغلبي، فاستولدها عمر، ورقية، رضي الله عنهم أجمعين.
* وقعة الفــراض:
ثم سار خالد بمن معه من المسلمين إلى الفراض وهي تخوم الشام والعراق الجزيرة، فأقام هنالك شهر رمضان مفطراً لشغله بالأعداء، ولما بلغ الروم أمر خالد ومصيره إلى قرب بلادهم، حموا وغضبوا وجمعوا جموعاً كثيرة، واستمدوا تغلب، وإياد، والنمر، ثم ناهدوا خالداً فحالت الفرات بينهم، فقالت الروم لخالد: أعبر إلينا، وقال خالد للروم: بل اعبروا أنتم، فعبرت الروم إليهم، وذلك للنصف من ذي القعدة سنة اثنتي عشرة، فاقتتلوا هنالك قتالاً عظيماً بليغاً، ثم هزم الله جموع الروم وتمكن المسلمون من اقتفائهم، فقتل في هذه المعركة مائة ألف، وأقام خالد بعد ذلك بالفراض عشرة أيام، ثم أذن بالقفول إلى الحيرة، لخمس بقين من ذي القعدة، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير في المقدمة، وأمر شجرة بن الأعز أن يسير في الساقة، وأظهر خالد أنه يسير في الساقة.